بحرالعرب:
لم يحدث في تاريخ البشرية الحديث أن ظلت حكومة بلد كامل في المنفى أكثر من عقد من الزمان، تتجول بين العواصم كظل تائه، دون أرض تحكم أو شعب يدار، سوى في الحالة اليمنية، فالحكومات التي خرجت من بلدانها عادة خرجت لتعود، لا لتستوطن الغربة وتستمرئ العجز، في فرنسا زمن الاحتلال النازي كانت حكومة ديغول في المنفى أربع سنوات فقط، ثم عادت، وفي الكويت أثناء الغزو العراقي بضعة أشهر، ثم عادت، أما في اليمن، فـ”الشرعية” أصبحت مقيمة إقامة دائمة في الخارج، كأنها شركة سياسية بلا مقر، تدير عبر بيانات من الفنادق وطائرات من دون اتجاه!.
لكن الأعجب من غياب الحكومة، هو اصطفاف الشعب ـ أو قطاع واسع منه ـ خلف من يرفض السلام، ويقدس الحرب كأنها عبادة، في اليمن، صارت مفردة “السلام” تستقبل كشتيمة، من ينطق بها يتهم بالخيانة، وبالتفريط بدماء الشهداء، وبالارتماء في أحضان “العدو”، أي عدو؟ لا أحد يعرف بعد كل هذه السنوات من الدم من هو العدو ومن هو الصديق، كل الأطراف تدعي الوطنية، وكل طرف يرى أن الوطن يبدأ وينتهي عنده..
هذه الحالة الجماعية من الرفض لأي مبادرة سلام ليست نتاج وعي سياسي، بل نتاج إدمان الحرب نفسيا واجتماعيا، فحين يعيش الإنسان سنوات في أتون المعركة، يتحول صوت الرصاص إلى جزء من إيقاع حياته، وتغدو الحرب نمط عيش ووسيلة بقاء، الحرب تعطي معنى للفراغ، وتمنح البؤس سببا ليبدو نبيلا، ومن هنا، يتحول السلام إلى خطر، لأن السلام يعني مواجهة الذات، ومساءلة الفشل، وظهور الأسئلة التي تخشاها الأطراف كلها: ماذا بعد؟ من سيحاسب؟ من سيعتذر؟ من سيدفع الثمن؟.
ما يجري في اليمن هو تحول نفسي جماعي:
طرف في صنعاء أقنع نفسه أنه يقود معركة “الكرامة والسيادة” ضد الخارج، حتى وهو ينهب الداخل، وطرف في الرياض أو عدن أقنع نفسه أنه يحمل “الشرعية”، حتى وهو عاجز عن حماية نفسه من التآكل، أما الشعب، فموزع بين خوف مستمر، وعزلة نفسية، واستسلام لفكرة أن لا خلاص!.
لقد خلقت الحرب ما يمكن تسميته بـ “عقدة الشهداء” عقدة تجعل كل صوت يدعو إلى إيقاف النزيف يبدو وكأنه يطعن من ضحوا في ظهورهم، لكنها عقدة خادعة، لأن الذين يموتون لا يريدون من الأحياء أن يواصلوا الموت نيابة عنهم، بل أن يصنعوا حياة تستحق تضحياتهم..
ما وصلنا إليه اليوم جعلنا نعيش حالة إنكار جماعية، إنكار لفداحة الكارثة، وإنكار لحقيقة أن الحرب لم تعد من أجل قضية، بل من أجل استمرار سلطات الأمر الواقع في جني المكاسب، إنكار لأن الاعتراف يعني بداية الانهيار النفسي، وكأن البلاد بأكملها تعيش في حالة ذهان سياسي، يرى فيها كل طرف مؤامرة في كل مبادرة، وخيانة في كل يد ممدودة!.
خاتمة: حين يختطف الوعي
إن ما يجري في اليمن ليس مجرد حرب سياسية، بل حرب على الوعي، تم اختطاف العقل الجمعي، وإعادة برمجته ليكره السلام ويخاف منه، لأن السلام يهدد مصالح المتحكمين، لقد تحولت مفردات مثل “السيادة” و“الكرامة” إلى أقنعة لابتزاز الناس، ووسيلة لتبرير استمرار الجوع والدمار، فمن يحكم باسم “السيادة” وهو ينهب الشعب، لا يدافع عن السيادة، بل عن سلطته، ومن يبرر الغياب باسم “الشرعية”، لا يدافع عن الشرعية، بل عن امتيازاته..
لقد آن لليمنيين أن يدركوا أن السلام ليس خيانة، بل شجاعة، وأن من يرفضه بعد أحد عشر عاما من الخراب لا يدافع عن الوطن، بل يختبئ خلفه ليحمي سلطته من السقوط الأخلاقي والسياسي..