بحرالعرب:
لم يعد الوجع في اليمن وجع حرب وسلاح فقط، بل وجع وعي مفقود، وكرامة ضاعت بين أقدام الساسة والمتنفذين الذين باعوا الوطن قطعة قطعة، كل لحسابه ولسيده الذي يغذيه بالمال أو الوهم أو الحماية، صار الوطن سوقا مفتوحا للمزايدات الوطنية، يرفع كل فريق شعار “حب الوطن” ليغطي على خيانته له، ويتهم غيره بالفتنة بينما هو غارق حتى أذنيه في وحل العمالة والتبعية..
في مشهد يوجع القلب، ترى كاتبا يتحدث عن “الوطن الكبير” من عاصمة الاحتلال أبوظبي، وآخر يهدد الانقلابيين من فندق في الرياض عاش فيه أحد عشر عاما لم يشارك خلالها سوى في حفلات الولاء للسلطان الجديد، وثالثا يصدح من صنعاء بخطابات الكرامة والسيادة فيما صور خامنئي وحسن نصر الله تملأ الشوارع، ورواتب الناس منهوبة منذ عقد من الزمن، كلهم يتحدثون باسم الوطن، وكلهم يبيعون الوطن في مزاد العبودية..
ولم يتوقف المشهد عند حدود الخطاب، بل تجاوز إلى الامتنان المقيت، ترى من يمتن لدولة قدمت له ألواح طاقة شمسية، بينما بلاده تمتلك محطة كهرباء غازية عملاقة مهملة ومعطلة، ويمتن لجهة توزع عليه سللا غذائية، فيما أرضه حبلى بالثروات الزراعية والنفطية القادرة على إطعام الأمة بأسرها، إنه الامتنان للركوع، والسجود لمن صنعوا منهم عبيدا يتباهون بخضوعهم، وأسيادا على وطن أفرغ من سيادته..
لقد تحول اليمني – الذي كان يوما يفاخر بكبريائه وأنفته – إلى تابع يبحث عن سيد يمن عليه بلقمة أو تصريح أو رتبة، نتسابق إلى العبودية بإخلاص، كل يزعم أن سيده أرحم من سيد غيره، وأن خضوعه أقل خيانة من خضوع الآخر، وبهذا الوهم، تاهت البوصلة، وتحول الشعب العظيم إلى قطع من شطرنج يحركها الخارج كما يشاء!.
أين ذهبت أنفة اليمني التي صنعت حضارة سبأ ومعين وحمير؟ أين ذلك الشعور العميق بالسيادة الذي كان يجعل ابن الجبال والسواحل يرفض الذل ولو كان ثمنه الحياة؟.
لقد نجح الطغاة في تجويع الناس حتى ينسوا الكرامة، وفي بث الفرقة حتى نرى بعضنا أعداء لا إخوة، وفي إقناعنا بأن خلاصنا لن يأتي إلا من وراء الحدود!.
لكن التاريخ لا يرحم، واليمن ليست اسما عابرا في الجغرافيا، إنها روح ضاربة في عمق الأرض، لا تموت إلا إذا مات الإيمان بها في صدور أبنائها، ولن يكتب لهذه البلاد أن تنهض إلا حين يدرك أبناؤها أن لا سيد لهم إلا ترابها، ولا ولاء يعلو فوق ولائها، ولا نصر يأتي من الخارج، بل من يقظة الداخل، من الشعب نفسه حين يقول كلمته: كفى عبثا، كفى تبعية، كفى إذلالا..
حينها فقط، سيستعيد اليمني ملامحه الحقيقية، لا تابعا ولا أجيرا، بل سيدا في وطن حر كريم كما أراده أجداده، وكما يستحقه تاريخه الطويل، ذلك اليوم ليس بعيدا، لكنه مرهون بقرار واحد: أن نعود يمنيين قبل أن نكون أي شيء آخر..