شيخ أنتا ديوب… الرجل الذي أعاد إفريقيا إلى نفسها
عبدالعزيز ابوعاقلة
رحلة مفكّر هزم المركزية الأوروبية بالعلم واللغة والتاريخ**
& في لحظات التحوّل الكبرى في تاريخ القارة الإفريقية، يبرز اسمٌ واحدٌ ظلّ صامدًا في وجه الزيف التاريخي لقرون: شيخ أنتا ديوب. ذلك المفكّر السنغالي الذي شقّ طريقه من قرية صغيرة في ديوربل إلى مختبرات السوربون، ليفجّر أحد أعظم النقاشات الفكرية في القرن العشرين: من يملك سردية التاريخ؟ ومن يكتب حضارة إفريقيا؟
نعود اليوم للكتابة عن “ديوب” لأن أسئلته القديمة ما تزال حيّة:
هل يمكن لإفريقيا أن تنهض دون أن تستعيد ذاكرتها؟ وهل يُكتب المستقبل بوعيٍ منقوص لا يعرف جذوره؟
لقد وقف ديوب في مواجهة أطروحاتٍ أوروبية ضخمة، محمّلًا بالعلم والجرأة، وبقدرة استثنائية على توظيف الفيزياء والأنثروبولوجيا واللغويات والتاريخ كي يقول ببساطة: إفريقيا كانت هنا دائمًا… في قلب الحضارة الإنسانية.
وُلد شيخ أنتا ديوب عام 1923 في أسرة مسلمة من قبيلة الوولوف، وجمع بين التعليم القرآني والمدارس الفرنسية الاستعمارية. وبمجرد وصوله إلى باريس عام 1946، لم يكن طالبًا عاديًا، بل انخرط في الحركات الطلابية المناهضة للاستعمار وأسّس “رابطة الطلاب الأفارقة”، ثم ساهم في أول مؤتمر للجامعة الإفريقية.
تكوينُه العلمي كان مزيجًا نادرًا:
• فيزياء تحت إشراف الحائز على نوبل “فريدريك جوليو-كوري”.
• لغويات قادته إلى ترجمة أجزاء من نظرية أينشتاين إلى لغة الوولوف.
• فلسفة، أنثروبولوجيا، وتاريخ مصريات.
كان ديوب ينظر للعِلم لا كاختصاص، بل كأداة تحرّر.
عام 1951، تقدّم ديوب بأطروحته للدكتوراه قائلاً بوضوح:
الحضارة المصرية القديمة حضارة إفريقية سوداء.
كان وقع الجملة زلزالًا على المؤسسة الأكاديمية الفرنسية، فرفضت الأطروحة فورًا. لكن ديوب لم يتراجع، بل أمضى تسع سنوات يجمع أدلة من:
• الفيزياء النووية
• الأنثروبولوجيا
• التحليل اللغوي المقارن
• علم الوراثة
• علم الأعراق البشرية
• التاريخ المقارن
وفي عام 1955 نشر كتابه الشهير «الأمم والثقافة الزنجية» الذي سيقلب الرواية التاريخية رأسًا على عقب، قبل أن يحصل أخيرًا على الدكتوراه عام 1960.
لقد قدم ديوب أول مشروع علمي متعدد التخصصات في التاريخ الإفريقي الحديث، وهو ما جعله رائدًا لمدرسة معرفية كاملة.
لماذا كان ديوب ثوريًا؟ أهم إسهاماته العلمية والفكرية
1. تفكيك المركزية الأوروبية في كتابة التاريخ
أثبت ديوب أن الرواية الغربية للحضارة الإنسانية مخترقة بالتحيّزات، وأن تجاهل الدور الإفريقي كان فعلًا سياسيًا أكثر منه علميًا.
2. إعادة مصر القديمة إلى فضائها الإفريقي
اعتمد على:
• المقارنات اللغوية الدقيقة
• قياس الميلانين في المومياوات
• تقارير الإغريق الأوائل
• التحليل الأنثروبولوجي
ليثبت انتماء مصر الثقافي والحضاري لشعوب إفريقيا جنوب الصحراء.
3. تأسيس منهج “المقاربة متعددة التخصصات”
كان ديوب من العلماء القلائل عالميًا الذين مزجوا بين العلوم الطبيعية والإنسانية لبناء نظرية معرفية كاملة.
4. نظرية “المهدين”
قدّم فهمًا جديدًا للاختلافات الثقافية بين الشعوب الأوروبية والإفريقية، قائمًا على البيئة والنشوء وليس على العِرق.
5. استعادة الوعي التاريخي للأفارقة
أكد أن النهضة السياسية مستحيلة دون استعادة ذاكرة القارة. ولذلك دعا إلى:
• تدريس العلوم باللغات الإفريقية
• توحيد إفريقيا في إطار فيدرالي
• إعادة قراءة التاريخ من منظور إفريقي
6. تأسيس المختبر الأول للكربون المشعّ في غرب إفريقيا
بفضله أصبحت جامعة داكار مركزًا مهمًا في دراسة المومياوات والمواد الأثرية لإثبات الأصول العرقية.
حصل ديوب على أرفع الجوائز العالمية والإفريقية، وتحوّل إلى أيقونة فكرية عالمية. وفي 4 أبريل 1985، أعلنت مدينة أتلانتا الأمريكية “يوم شيخ أنتا ديوب” تقديرًا لعطائه.
لماذا نكتب عن ديوب اليوم ؟ لأن إفريقيا في لحظاتها الراهنة بين الحرب والتحوّل تبحث عن ذاكرة تستند إليها ومستقبل تبنيه.
ولأن السردية العالمية ما تزال أسيرة المركزية نفسها التي حاربها ديوب قبل سبعين عامًا.
ولأن صعود موجات جديدة من العنصرية يجعل الحاجة ملحّة لإعادة قراءة مشروعه:
مشروع تحرير معرفي يسبق التحرير السياسي.
إن ديوب ليس مجرد مؤرخ، بل هو هندسة فكرية لإفريقيا جديدة، تُكتب فيها العلوم بلغاتها، ويُعاد فيها الاعتبار لموروثٍ ظلّ منسيًا.
لقد حاولت قوى كثيرة طمس دور إفريقيا في الحضارة الإنسانية، لكن شيخ أنتا ديوب وقف بينهم كحارس للذاكرة.
لم يكن يكتب التاريخ ليتباهى، بل ليمنح القارة أساسًا تقف عليه في زمن الغزو الثقافي.
واليوم، بينما تواجه إفريقيا تحديات الهوية، والانقسامات، الحروب الداخلية والصراعات، يبدو صوت ديوب أكثر ضرورة من أي وقت مضى:
لا نهضة بلا ذاكرة، ولا مستقبل بلا استعادة الحقيقة. عبدالعزيز ابوعاقلة azizabuaglah@gmail.com