بحث

زياد الرحباني … الذي رحل وتركنا نعيش الوهم

عبد العزيز ابوعاقلة

 

زياد الرحباني: الذي رحل وتركنا نعيش الوهم                              

                              عبدالعزيز ابوعاقلة 
رحل زياد أخيرًا…
لكن الحقيقة أن رحيله ليس جديدًا.
فقد مات مرّات كثيرة قبل أن يرحل حقًا: يومَ سكتت بيروت عن الحلم الجميل ، ويومَ صار الغناء إعلانًا سياسيًا، ويومَ صار الوجع مادةً للتسلية.
مات زياد حين أدرك أن العبقرية في هذا الشرق ليست هبة، بل لعنة أبدية عندما لا تعجب حكامه.

كان زياد الغريب الأكثر ألفةً بيننا.
ابن فيروز، لكن ابن الخيبة أيضًا.                                خيبة اوطاننا ……
ولد في بيتٍ يفيض موسيقى، لكنه خرج منه ليكتشف أن النغمة وحدها لا تكفي كي تُصلح بلادًا خربها الطائفيون والشعراء المهرجين وانصاف المثقفين ….
أدرك مبكرا  أن الموسيقى لا تُطعم الجائع، لكنها تُشبع الروح بالتمرّد. ولكن لم يفهم احد ….
فجعل من البيانو منبرًا، ومن المسرح منفى، ومن النكتة بيانًا سياسيًا لا يخاف أحدًا.

زياد الذي لم يهادن، لا مع الفن ولا مع الوطن.
سخر من الحرب، ومن الطوائف، ومن الشعراء الذين باعوا القصيدة للساسة.
ضحك في وجه المأساة، لا لأنها تضحك، بل لأن البكاء صار ترفًا في بلادٍ فقدت القدرة على الحزن.
كان يعرف أن الكلمة حين تُقال صادقة تصبح أخطر من الرصاص.
ولذلك خافوه جميعًا: الساسة، والمثقفون، والنخب والحكام … ..وحتى أولئك الذين أحبوه ولم يعرفوا ماذا يفعلون بمرآته القاسية.

“أنا مش كافر” لم تكن أغنية، كانت مانيفستو وجوديًا،
صرخة ضد كل شيء يحاول تحويل الإنسان إلى تابع أو مؤمن بالقهر.
قالها زياد لأنه كان يرى الكفر الحقيقي في الجوع، في الخذلان، في بلدٍ يُسمي الفقر قَدَرًا.

كان يشبهنا حين نحلم ولا نجد من يصدقنا.
حين نضحك كي لا ننهار.
حين نكتب كي لا نموت من الكلام المكبوت.
زياد لم يكن فنانًا فقط، بل عقلًا جمع بين عبث المسرح وسخرية الفلاسفة ومأساة اليساري الذي شاهد ثورته تُباع بالتقسيط.
كان يرى في بيروت مختبرًا للجنون العربي: مدينةٌ تكتب الشعر وتبيع الرصاص في الوقت نفسه وتتأمر علي نفسها …..

رحل زياد،
وبرحيله انطفأت زاوية من الضوء الذي كان يكشف عتمتنا..وظلامية اوطاننا …
لم يترك وراءه ميراثًا من الألحان والموسيقي  فقط، بل ترك طريقة جديده  للنظر إلى العالم.
علّمنا أن الفن لا يكون جميلًا إلا إذا كان صادقًا، وأن السخرية ليست هروبًا من الوجع بل شكله الأرقى.

برحيله، نشعر أن المسرح خاوٍ، وأن المقهى فقد نكهته، وأن الكلمات صارت بلا موسيقى.
لم يمت نجم، بل انسحب صوت من أصوات الوعي الملتزم  النادر، ذاك الذي كان يقول لنا ما نهرب منه ولا نريد أن نسمعه، وما لا نحب 

ويجعلنا نضحك ونحن نحترق.

رحل زياد، وترك وراءه نصف لحن، نصف فكرة، ونصف كلمة لم تكتمل.
تركنا نعيش الوهم الذي حذّرنا منه: أن نبحث عن وطنٍ في الأغنية، وعن عدالةٍ في التصفيق.

وداعًا زياد…
يا آخر العازفين على أعصابنا دون أن نغضب،
يا من جعلت من الجنون طريقة في التفكير، ومن الموسيقى وسيلة للنجاة.
نم قليلًا، أيها المتعب الجميل،
فقد تَعبت الحانك وكلماتك 
، وتعبنا نحن من العيش في عالمٍ بلا لحنك.                                                                 عبدالعزيز ابوعاقلة                                                            لندن 2025

آخر الأخبار