رؤوف مسعد : رجل كتب بالجرح لا بالحبر ورحل ~~~~~~~~~~~~~~~~
عبدالعزيز ابوعاقلة
لم يكن رؤوف مسعد مجرد أديب روائي فقط ، بل حالة خاصة ثقافية متنوعة لتمرد يمشي على قدمين بدأ حياته يساريا ثم فارق الأيديولوجيا عندما احس انها تكبله ..وُلد في السودان في كنف أسرة قبطية محافظة حمل صوته معه إلى القاهرة ليكمل دراسته ولكنها لم تحتمل أسئلته، ثم إلى المنافي بيروت ..بغداد ..وهولندا حيث وجد الحرية أخيرًا. لم يكن يكتب ليُعجب السلطة أو يُرضي الجمهور، بل ليقول الحقيقة كما هي: حارة، فاضحة، غير قابلة للتجميل. كان يؤمن أن الأدب ليس وسادة، بل مطرقة تكسر الصمت.
كتب وكأنه يعيش في جرح مفتوح. مزج السخرية بالوجع، واللغة الشعرية بالواقعية القاسية. يفتح الدين على السياسة، والسياسة على الجسد، والجسد على الذاكرة. لم يخشِ التابوهات، بل حوّلها إلى مادة إبداع، وفضح نفاق المجتمع والنخب دون أن يلوّح براية أيديولوجية. كان مثقفًا يعرف أن الثقافة موقف أخلاقي، لا شهادة جامعية.
واجه السلطة العسكرية والدينية معًا. سخر من تديين السياسة، وهاجم العسكر حين جعلوا الوطن ثكنة. كتب عن الخوف باعتباره أخطر من الديكتاتور، وعن الحرية كأنها الهواء. قال بروحه: “الكتابة هي الطريقة الوحيدة لأبقى واقفًا حين يريد العالم أن أركع.” وكان يقول: “الوطن الذي يُجبرك على الصمت… من حقك أن تغادره بالقدم أو بالكلمات.”
أهم ما فعله أنه لم يخن نفسه. لم ينحني لم يساوم. حتى عندما عاش المنفى، ظل يحمل قضية واحدة: الحرية….
ترك لنا أعمالًا تشهد أنه كان سابقًا لعصره أهمها:
• «لومومبا والنفق» (مسرحيتان – 1970)
• «صباح الخير يا وطن» شهادة من بيروت المحاصرة (1983)
• «بيضة النعامة» (1994)
• «مزاج التماسيح» (2000)
• «في انتظار المخلّص: رحلة إلى الأرض المحرمة» (2000)
• «خمس مطبوعات» (آخرها 2011)
هذه ليست مجرد مطبوعات وكتب ، بل محاولات جريئة لفهم عالم محطم، وفضح تحالف السلطة مع الخوف ومع الكذب. كان يكتب عن الإنسان المقهور المهمش ، عن المنفي داخل وطنه، عن الحروب التي تحدث في القلب قبل أن تحدث في الشارع.
أما مقولاته، فكانت شظايا وعي:
• “الحرية ليست شعارًا… إنها وجع ومسؤولية.”
• “حين يصمت المثقف، يتكلم الجلاد.”
• “الخوف ديكتاتور داخلي… أخطر من أي جنرال.”
• “لا أكتب لأنتصر… أكتب لأفضح.”
كان يرى أن الكاتب الحقيقي ليس زينة ثقافية، بل شاهد اتهام. لم يكن محايدًا، بل منحازًا للإنسان. لم يطلب تصفيقًا، طلب صدقًا. لم يهرب من العالم، بل كشفه.
رحل رؤوف مسعد جسدًا، لكنه ترك ما هو أخطر من الخلود: ترك صوتًا لا يمكن إسكاتُه. صوت كاتبٍ عاش واقفًا، ومثقفٍ لم يبع عقله، وروائيٍ لم يسمح للمنفى أن يصنع منه ضحية. ظل يقول لنا حتى آخر نفس: يمكن للكاتب أن يخسر كل شيء… إلا كرامته.
هكذا يرحل الكبار: لا ينحنون، لا ينكسرون بل يتركون وراءهم طريقًا للآخرين كي لا يركعوا. . #عبدالعزيز ابوعاقلة لندن اكتوبر 2025 azizabuaglah@gmail.com