لم تبدأ الحرب في السودان في الخامس عشر من أبريل، بل بدأت منذ اللحظة التي قرر فيها العسكر أن السلطة أثمن من المواطن والإنسان، عندما تم التآمر على ثورة ديسمبر المجيدة بليل، عندما سكت الجميع على فض الاعتصام الثوري بالسلاح وسحل وقتل المعتصمين وإلقائهم في النيل واغتصاب الفتيات. عندما قال أحد جنرالات العسكر الانقلابيين: "حدث ما حدث"، وصمتت النخب السياسية.
ومنذ اللحظة التي صمت فيها الناس عن أول بيتٍ احترق، وأول امرأةٍ اغتُصبت، وأول طفلٍ صرخ ولم يجبه أحد.
هذه ليست حربًا بين جيشين كما يقولون،
إنها حربٌ على قلب البلاد، حرب مصنوعة بالخداع والتآمر والكذب.
إنها حرب على رحمٍ يُنبت الحياة في أرضٍ تُدفن فيها الأجساد.
حربٌ على النساء اللاتي صرن حدودًا تُرسم بالدم،
وعلى الأطفال الذين كبروا على رائحة البارود بدل رائحة الخبز والحليب والتعليم.
النساء… وحدهن يدفعن الثمن… يلدن الألم لا الحياة.
تقول تقارير الأمم المتحدة إن أكثر من 5.8 ملايين امرأة وبنت نزحن من بيوتهن،
وأن المئات تعرّضن للاغتصاب الجماعي في الخرطوم ودارفور وكردفان.
تحولت أجساد النساء إلى رسائل سياسية مكتوبة بالدم،
ومع كل صرخة، يتهاوى جدار أخلاقي جديد في هذا الوطن المنكوب.
قالت هانا آرنت ذات مرة:
"الشرّ ليس في القتلة وحدهم، بل في الذين يرون القتل ويصمتون".
فكم من له مصلحة أن تستمر الحرب في هذه البلاد صار شريكًا في الجريمة؟
وكم من منبرٍ رفع اسم الوطن ودفن وجوه نسائه في العار؟
في حرب السودان الكثيرة الماضية وهذه الحرب، لم تُقتل الطفولة فقط، بل أُعيد تعريفها.
الأطفال… جيل يرضع الحرب.
الآن الأطفال في السودان لم يعودوا يدرسون ولا يلعبون بالكرة، ولا يضحكون، بل يتسابقون في الهرب من القنابل.
تقول تقارير اليونيسف إن أكثر من 10 ملايين طفل يعيشون اليوم في خط النار،
وأن 12 مليونًا حُرموا من المدرسة.
قال الفيلسوف إيمانويل كانط:
«كل حرب تُطفئ نور العقل، وتوقظ الحيوان النائم في الإنسان».
وفي السودان، استيقظ الحيوان، وانكسر العقل.
حتى صار الوطن ملعبًا مفتوحًا للدم،
وأصبحت الضحكة جريمةً لا تُغتفر.
الأرض التي تلد الموت
تُقصف المستشفيات، وتُنهب القرى، وتُدفن العائلات جماعيًا.
نحو 70% من المرافق الصحية خرجت عن الخدمة،
وأكثر من 9 ملايين إنسان فرّوا من ديارهم —
هي أكبر موجة نزوح في العالم اليوم.
في معسكرات النزوح، لا لغة سوى البكاء.
امرأة تلد في الخلاء،
وأخرى تغسل طفلها بدموعها بدل الماء،
وثالثة تهمس: “أي إلهٍ هذا الذي تركنا وحدنا في الجحيم؟”
من تحت الرماد… أصوات نساء أفريقيات
ليست إفريقيا غريبة عن الحروب والألم.
ففي ليبيريا، كانت النساء أول من خرجن بثيابٍ بيضاء قائلين: كفى.
وفي رواندا، بنَت الأمهات مدارس من رماد البيوت.
وفي سيراليون، غسلت الأرامل الشوارع التي شهدت موت أحبابهن.
فهل يُكتب للسودان أن يسمع نداء نسائه؟
أن تخرج الأمهات من بين الأنقاض ليقلن: لا نريد بعد اليوم أبناءً يُولدون إلى المقابر؟
كل يوم في هذا الوطن المتكارث بهم تتناسل البيانات الباردة مثل الرصاص الفارغ.
لكن الدماء لا تجف بالحبر.
من حمل السلاح يتحمل المسؤولية،
ومن صمت على القتل المجاني للمدنيين العزل يتحمل العار،
ومن برّر يتحمل الخطيئة.
قال نيلسون مانديلا:
“السلام ليس غياب الحرب، بل حضور العدالة.”
ولا عدالة هنا،
ما دامت أجساد النساء تُنتهك،
وما دام الأطفال يُدفنون بأسماء مجهولة، مادام يتم تصوير مشاهد الموت للمدنيين للتشفي وعلى أساس الإثنية.
أيها المتحاربون…
أوقفوا الحرب، فقد ماتت الأسباب،
ولم يبقَ سوى الجثث.
كل طلقةٍ تُطلقونها تصيب امرأة تنزف،
وطفلًا يفقد أمه،
ووطنًا يشيخ عامًا آخر، ويهرم 100 عام.
من ينهش جسد الطفل اليوم،
يمد يده ليقتل المستقبل.
ومن يغتصب امرأة،
يغتصب ذاكرة وطنٍ بأكمله.
الحرب لا تُربح…
الحرب تُورّث الخوف والجنون والدم.
أوقفوا الحرب…
قبل أن يُصبح الوطن السودان مجرد خيالٍ يحكيه اللاجئون لأطفالٍ لم يولدوا بعد.