شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
عبدالكريم الإرياني… عقل الدولة وضميرها الحي
“ هناك رجالٌ لا يرحلون، لأنهم يسكنون في ذاكرة الوطن، كالفجر في مواعيد الضوء .”
في الثامن من نوفمبر، تمرّ على اليمن ذكرى فقدان أحد أنبل رجالها وأصفى عقولها، الدكتور عبدالكريم علي يحيى الإرياني (1934–2015)، الرجل الذي جمع في شخصه بين نُبل العالم، وحنكة السياسي، ورصانة الدبلوماسي، وحكمة الفيلسوف.
لم يكن الإرياني حدثاً عابراً في سجل السياسة اليمنية، بل كان ظاهرة فكرية وسياسية تركت بصمتها على مسار الدولة منذ فجر تكوينها الحديث، وحتى آخر لحظة من حياته العامرة بالعطاء.
من المختبر إلى… معترك الدولة
تخرّج الإرياني في واحدة من أعرق الجامعات الأمريكية، حاملاً الدكتوراه في علم الوراثة، وهو أول يمني نال هذه الدرجة الرفيعة في هذا التخصص العلمي الدقيق. غير أن القدر شاء أن يتحول من عالمٍ يبحث في الجينات إلى مهندسٍ يشتغل على جينات الدولة نفسها — يصوغ مفاهيمها، ويهندس مؤسساتها، ويزرع في تربتها بذور الكفاءة والعقلانية.
عاد إلى وطنه لا ليعتزل في برجٍ أكاديمي، بل لينغمس في هموم اليمن، مؤمنًا أن خدمة الوطن لا تكون بالشعارات، بل بالمعرفة المنضبطة والإدارة الرشيدة.
رجل الدولة.. الذي لا يتكرر
تقلّد الدكتور الإرياني مناصب عدة: رئيسًا للوزراء (1980–1983) و(1998–2001)، ووزيرًا للخارجية، ومستشارًا لرئيس الجمهورية. لكن المنصب بالنسبة له لم يكن غايةً ولا مجداً شخصياً، بل وسيلة لبناء فكرة الدولة الحديثة — دولة تُدار بالقانون، لا بالعاطفة؛ وبالمؤسسات، لا بالأفراد.
كان يرى أن الدولة مشروعٌ علمي، وأن السياسة — مهما تعقّدت — يمكن أن تُدار بالعقل الهادئ والمنهج الصارم.
لم يكن الرجل خصماً لأحد بقدر ما كان خصماً للفوضى، وعدوّاً للارتجال، ومناصراً دائماً للمنهج والعقلانية.
عرّاب الوحدة… وصوت الحكمة
في المفاوضات التي سبقت إعلان الوحدة اليمنية عام 1990، كان الإرياني أحد أبرز مهندسيها، إذ تعامل مع الوحدة باعتبارها قدَراً وطنياً وتاريخياً، لا صفقة سياسية.
أدرك ببصيرته أن وحدة الشعوب لا تُصنع على الورق، بل تُبنى على الثقة، والوعي، والاحترام المتبادل.
وحين تعرّض الوطن لعواصف الانقسام والاضطراب، ظلّ الإرياني صوت الحكمة في زمن الصراخ، يحاور الجميع دون أن يعادي أحداً، ويجمع المختلفين على كلمة سواء حين تعجز القوى الأخرى عن اللقاء في منتصف الطريق.
كان بحقّ رجل التوازن والتبصّر، لا ينحاز إلا لليمن.
حضور أخلاقي… قبل أن يكون سياسياً
في زمنٍ اختلط فيه المال بالسلطة، والمصلحة بالموقف، ظلّ عبدالكريم الإرياني استثناءً نادراً في أخلاق السياسة.
لم يتلوث بفساد، ولم يلهث وراء جاهٍ أو ثروة، ولم يتوسّل قرب السلطة.
كان نزيهاً في القول كما في الفعل، مهاباً دون أن يرفع صوته، محترماً لأنه لم يبع مواقفه.
ولذا أحبه خصومه قبل أصدقائه، واحترمه المختلفون معه قبل المتفقين عليه.
كان “الداهية” الذي لا يخدع، والسياسي الذي يربح دون أن يُقصي، والوطني الذي يعمل دون أن يزايد.
ملحمة حنيش… حين انتصر العقل على البارود
من بين الصفحات المضيئة في سيرة الدكتور عبدالكريم الإرياني، تبرز قضية جزر حنيش كأنصع دليل على أن الدبلوماسية الحكيمة قد تصنع نصراً يعجز عنه السلاح.
ففي ديسمبر عام 1995، حين أقدمت إريتريا على احتلال جزيرة حنيش الكبرى في البحر الأحمر، اشتعلت المشاعر الوطنية، وارتفعت الأصوات المطالبة بالحرب، غير أن الإرياني، الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير الخارجية، نظر إلى المشهد بعينٍ أخرى — عين رجل الدولة لا عين الغضب.
وقف الإرياني بثباتٍ نادر وقال عبارته الشهيرة في اجتماعات مغلقة:
“ الحرب قد تُعيد الأرض، لكنها قد تقتل المستقبل .”
اختار طريق القانون الدولي لا المدافع، مؤمناً بأن حق اليمن واضح، وأن الوثائق والتاريخ إلى جانبها.
فقاد بنفسه فريق التفاوض والإعداد القانوني، وجمع الأدلة والخرائط والوثائق التي تثبت يمنية الجزر.
ثم نجح — بحكمة العالم وصبر الدبلوماسي — في نقل القضية إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي.
على مدى ثلاث سنوات، أدار الإرياني معركة فكرية وقانونية من الطراز الرفيع، حول خلالها الملف السياسي إلى قضية علمية موثقة، قدمها للعالم بلغة القانون والحقائق، لا بلغة الانفعال.
وفي عام 1998، صدر الحكم التاريخي الذي أعاد جزيرة حنيش الكبرى إلى السيادة اليمنية، بعد أن أقرت المحكمة بيمنيتها بشكل قاطع.
كان ذلك نصراً بلا دماء، ودرساً خالداً في فن إدارة الأزمات.
لقد أثبت الإرياني أن الدولة التي تملك عقلاً هادئاً وموقفاً ثابتاً، لا تُهزم حتى إن تأخرت المعركة.
لم يحتفل الإرياني يومها بصخب، ولم يتحدث عن “انتصاره”، بل قال بهدوئه المعتاد:
“ الحق لا يحتاج إلى ضجيج كي يُسمع، يكفي أن يُقال بثقة .”
لقد سجّل التاريخ هذا الإنجاز كواحدة من أنبل لحظات الدبلوماسية اليمنية الحديثة، وجعل من عبدالكريم الإرياني رمزاً للسيادة العاقلة، الذي استعاد أرضاً ضاعت، دون أن يُزهق روحاً واحدة.
حارس السيادة… وصوت القرار الوطني الحر
في زمنٍ كانت فيه رياح الإملاءات تتقاذف القرار اليمني بين العواصم، وقف الدكتور عبدالكريم الإرياني شامخاً كالسدّ المنيع أمام كل محاولات الانتقاص من سيادة اليمن واستقلال إرادته الوطنية.
لم يكن يرفع صوته بالخطابات، بل يحمي السيادة بصمته المدروس وحنكته العميقة.
آمن الإرياني أن السيادة لا تُصان بالشعارات الحماسية، بل بالقرار الرشيد، والاحترام المتبادل، والسياسة الذكية.
كان يؤمن أن استقلال القرار اليمني يبدأ من استقلال العقل اليمني، وأن الدولة التي تعرف مصالحها وتُحسن التعبير عنها لا يمكن أن تُستَتبَع لأحد.
وخلال عمله وزيراً للخارجية ثم رئيساً للوزراء، حافظ على توازن دقيق بين علاقات اليمن الإقليمية والدولية، بحيث لا يخسر أحداً، ولا يتنازل لأحد.
جعل من اليمن جسراً للحوار لا ساحة للصراع، ورفض أن تتحوّل البلاد إلى ساحة نفوذ لأي طرف خارجي، مهما كانت الإغراءات أو الضغوط.
كان يقول دائماً في مجالسه المغلقة:
“ السيادة ليست أن تقول لا، بل أن تعرف متى تقول نعم دون أن تُفرّط .”
بهذا الفهم العميق، صان الإرياني استقلال القرار الوطني، وأدار السياسة الخارجية بميزان الحكمة لا بردّات الفعل. لم يكن انغلاقياً، لكنه لم يكن تابعاً؛ لم يكن صدامياً، لكنه لم يكن خاضعاً.
كان الوسيط العاقل بين اليمن والعالم — يحاور الجميع، ويُبقي القرار الأخير في صنعاء.
وفي أحلك اللحظات، حين كانت القوى تتجاذب اليمن شرقاً وغرباً، ظلّ الإرياني يمثّل صوت الدولة لا صوت الحزب، وصوت الوطن لا صوت الفئة. كانت بوصلته واحدة:
مصلحة اليمن العليا، وهي البوصلة التي لم تخنه يوماً.
لقد حافظ على سيادة اليمن كما يحافظ العالم على فكرته النبيلة — بالعقل، والنزاهة، والاتزان.
وحين رحل، أدرك الجميع أن برحيله غاب آخر الحُرّاس الكبار لقرارٍ وطنيٍّ نقيّ، لا يُشترى ولا يُباع.
الإرياني في الحوار الوطني:
صوت المستقبل
في مرحلة مؤتمر الحوار الوطني (2013–2014)، مثّل الإرياني ذروة النضج السياسي والفكري، إذ أسهم في صياغة ملامح الدولة المدنية المنشودة، دولة القانون والمواطنة.
كان يؤمن أن اليمنيين قادرون على بناء عقدٍ اجتماعي جديد إذا ما أُتيحت لهم قيادة صادقة تؤمن بالحوار لا بالغلبة، وبالمنهج لا بالهتاف.
رسالة إلى شباب اليمن… من وحي الإرياني
إلى جيل اليوم… إلى شباب اليمن الذين يحملون في صدورهم قلق الغد وأمل الفجر، لو كان الدكتور عبدالكريم الإرياني بينكم اليوم، لقال بصوته الهادئ الذي كان أصدق من الخطب:
“ لا تستهينوا بقوة العقل، ولا تستسلموا لفوضى الشعارات. فالأوطان لا تُبنى بالغضب، بل بالمعرفة، والصبر، والإصرار .”
لقد آمن الإرياني أن الشباب هم معادلة المستقبل، وأن بناء الدولة يبدأ من بناء وعي الإنسان قبل عمران المكان. لم يكن يريد من الجيل الجديد أن يصفّق للسياسة، بل أن يفهمها ويُهذّبها ويشارك في صناعتها بضميرٍ يقظٍ وعقلٍ مستنير.
كان يرى أن العلم ليس طريق الفرد إلى النجاح فحسب، بل هو جسر الوطن نحو النهوض والكرامة.
أيها الشباب،
تعلّموا من الإرياني أن الوطنية ليست انفعالاً عابراً، بل عهدٌ مع العقل والضمير،
وأن القيادة ليست موقعاً ولا لقباً، بل منهج تفكير ومسؤولية أخلاقية.
احملوا الوطن في عقولكم كما تحملونه في قلوبكم،
وناضلوا من أجل سيادة بلدكم واستقلال قراره الوطني،
بعيداً عن التبعية والإملاءات الخارجية، فالوطن الحرّ لا يبنيه إلا أحرار الفكر والإرادة.
كونوا — كما كان هو — صوت الحكمة حين يعلو الضجيج، وعقل الدولة حين يضيع الاتجاه.
فاليمن الذي أحبّه الإرياني ينتظركم أن تكونوا امتداد حكمته لا مجرد شهودٍ على غيابه،
أن تبنوا بالمعرفة ما تهدمه الأوهام، وأن تجعلوا من العقل والسيادة بوصلة الطريق نحو الغد.
الخلاصة:
حين تتجسّد الحكمة في رجل
لم يكن عبدالكريم الإرياني مجرد رجلٍ من رجال الدولة،
بل كان هو الدولة حين غابت الدولة، والعقل حين غاب العقل، والسيادة حين فرّط الآخرون، والقرار الناجز المستقل حين رهنه التابعون.
جمع بين الهدوء والحزم، وبين التواضع والهيبة، وبين الواقعية والحلم.
كان من طينة أولئك الساسة الكبار الذين آمنوا أن القيادة فكرٌ ومسؤولية، قبل أن تكون سلطةً وقراراً.
رحيل الجسد… وبقاء الفكرة
رحل الدكتور عبدالكريم الإرياني في 8 نوفمبر 2015، غير أن فكره لم يرحل، وصوته لا يزال يهمس في ذاكرة اليمنيين كلما ضاعت البوصلة:
“احكموا بالعقل، لا بالهوى… فالأوطان لا تُبنى بالغضب .”
لقد ترك وراءه إرثًا فكريًا وسياسيًا أخلاقياً سيبقى مرجعاً لكل من يؤمن أن السياسة يمكن أن تكون مهنة شريفة، وأن الوطنية لا تحتاج إلى صراخ، بل إلى علمٍ، وتجردٍ، وإيمانٍ عميق بالإنسان.
غابت الابتسامة الهادئة، وبقيت الفكرة التي لا تموت —
أن اليمن لا يحتاج إلى بطلٍ جديد، بل إلى عقلٍ مثل الإرياني،عقلٍ يضيء الطريق حين يعمّ الظلام، ويذكّر الوطن بأن الحكمة — لا القوة — هي جوهر الخلود.