بحث

عُمان اليعربية… ذاكرةُ المجد وهدوءُ الحكمة

مصطفى بن خالد

 

شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم 
مـــصـــطــفـــى بن خالد

عُمان اليعربية… ذاكرةُ المجد وهدوءُ الحكمة

في يومها الوطني، تتقدّم عُمان إلى واجهة الوعي العربي لا بضجيجٍ يجذب الأبصار، بل بوقارٍ يليق بالأمم التي لا تحتاج إلى أن ترفع صوتها كي يُسْمَع وزنها.

إنها البلاد التي آثرت أن تُعرِّف نفسها بالفعل الراسخ لا بالشعار العابر، وبالميراث الحيّ لا باللحظة الطارئة، وبعمق التاريخ لا بزخرف الطموحات المؤقتة.
بلادٌ إذا مشت مرّ التاريخ معها، وإذا صمتت تكلّم الوقار عنها.

من هي عُمان؟

يبدو السؤال في ظاهره بسيطاً كظلٍّ يمرّ على الرمل، لكنه في جوهره شديد العُمق، كالنقوش اليعربية الأولى المنقورة على الصخر، وكأن كل ضربة إزميلٍ فيها تعلن أن هذا الوطن كان هناك في حضن الحضارة الأم الكبرى… قبل أن تتشكل حدودُ الأمّة العربية كما نعرفها اليوم.

من هي عُمان؟
هي آلاف السنين التي تخثّر فيها الزمن حتى صار حكمةً تهدي، وهي الجبال التي تكلّمت بفخامتها قبل أن تتكلم المدن، وهي السواحل التي علّمت البحر أسماء الرياح قبل أن يدوّنها الملاّحون، وهي القوافل السبئية التي حملت اللبان والتجارة والمعرفة، وهي الينابيع الصافية للنظام والمعرفة والتهذيب، وهي طبقاتٌ متراكمة من الوعي والرصانة والأدب والعلم والأخلاق.

إنها البلاد التي لم تهبط على الجغرافيا كطارئةٍ تلوّح ثم تمضي، بل استقرّت فيها كأحد أعمدة الوجود اليعربي القديم؛ بلادٌ امتدّ ظلّها في خرائط مملكة سبأ وحضرموت وذو ريدان والطود والتهائم وإعرابها،
وكانت —على مرّ العصور— مفتاحاً أصيلاً من مفاتيح الحضارة اليعربية الأولى، وملتقىً تنحني عنده طرق التجارة الكبرى، وممراً تنساب عبره القوافلُ والبضائعُ واللغاتُ والرؤى، ومصهَراً تتخالط فيه الثقافات حتى تصوغ هويةً أصفى وأرقى، ومختبراً مبكّراً تمرّنت فيه العربُ على فنون السياسة، ودرّبت فيه الأجيالُ ذاكرتها على الحكمة، والاتزان، وبُعد النظر.

حين ارتفع …الصوت العربي من الموج

ولعل إحدى قمم التاريخ العُماني تتجسّد في العصر اليعربي المجيد، ذلك الزمن الذي استعادت فيه عُمان ذاتها البحرية والسياسية:
 •طردت البرتغاليين من سواحل الخليج والمحيط،
 •واستعادت الموانئ التي حاولت الإمبراطوريات الأوروبية احتكارها،
 •وأعادت رسم موازين القوى في المحيط الهندي،
 •وأثبتت أن العرب قادرون على أن يكونوا سادة البحر إذا اجتمع لهم العلم والإرادة والبصيرة.

لم يكن ذلك نصراً عسكرياً فقط، بل كان نصراً حضارياً، تجلّى في بناء الأساطيل، وتوحيد الجبهة الداخلية، وتأمين طرق التجارة العالمية.

إنه العصر الذي صارت فيه عُمان “حامية المدخل الشرقي للعرب” ومصدّاً أمام الجشع الأوروبي، ونافذة حضارية تمتد حتى شرق إفريقيا، من زنجبار إلى مومباسا ودّار السلام.

حكمة الجغرافيا… وعبقرية الاتزان

كأن الجغرافيا منحت عُمان امتحاناً عسيراً :
 موقعٌ يشرف على مضيق استراتيجي ( هرمز )، وبحر واسع مفتوح، وحدود مع دولٍ كثيرة، وتقاطعات سياسية لا تنتهي.
لكن عُمان لم تُحوِّل موقعها إلى منصة صراع، بل إلى مدرسة توازن.

ففي العصر الحديث، اختارت السلطنة هندسة الهدوء نهجاً، ودبلوماسية الاعتدال مبدأً، وسياسة الباب المفتوح أسلوباً.
ومع مرور العقود، أصبحت:
 •جسراً بين العواصم التي افترقت،
 •ميزاناً في عالم اختلّت أوزانه،
 •بيتاً آمناً للمفاوضات حين تضيق الساحات،
 •دولةً ذات مصداقية نادرة لا تنحاز إلا إلى صوت العقل.

إنها عُمان التي نجحت في أن تُحوِّل الحياد من موقف إلى قيمة، ومن سلوك إلى بُعدٍ استراتيجي يرفع مكانتها بين الأمم.

إنسان عُمان… نبلٌ يُترجِم التاريخ

لا يمكن فصل الشخصية العُمانية عن تاريخها؛
فالعُمانيّ هو الوريث الطبيعي لكل هذا الهدوء العميق، ولكل هذا المجد المكتوب بحبر البحر.

هو إنسانٌ وقور، مؤدّب، صبور، يُشبه صمت الجبال وصلابتها، ويُشبه البحر إذا انبسط على مهل، ويُشبه الصحراء حين تُخفي تحت رمالها حكمة القرون.

إنه الإنسان الذي لا يستعرض قوته، بل يستعرض أخلاقه.
وهو سرٌّ من أسرار عُمان الخلاقة:
أنها بلدٌ يصنع الهيبة لا بالصوت، بل بالسيرة.

الخلاصة :
 بلدٌ يكتب ذاته في الزمن …كما تُكتب القصائد العظمى

هكذا تبدو عُمان اليعربية الأصيلة في يومها الوطني:
أمةٌ طويلة الجذور، ثابتة الظل، عالية المقام.
بلدٌ لا يلهث خلف الحداثة، بل يصوغها بما يتناسب مع أصالته.
ولا يرفع راية القوة، بل يرفع راية العقل.
ولا يشيخ تاريخه، لأنه مشغولٌ دائماً بصناعة الغد.

عُمان…
ذلك الهدوء الذي يسبق الحكمة، وذلك المجد الذي يسبق التعريف، وتلك المسافة الرصينة بين الصخب والعمق.

بلدٌ حين يُحتفى به… يحتفي الزمن نفسه بقيمته.

آخر الأخبار