محمد شكري… حين يكتب الجسد قبل اللغة
عبدالعزيز ابوعاقلة
يأتي نوفمبر دائمًا برائحة الملح والقطران من شوارع طنجة القديمة. شهرٌ لا يعود فيه شكري، لكنه يترك ضجيجه المدوّي خلفه: ضجيج الصبي الذي هرب من المدرسة لأن المعلم لطم كرامته، فقرر أن يتعلم من الشوارع بدلاً من الكتب. الصبي الذي عرف الجوع قبل أن يعرف الأبجدية، ثم أعاد كتابة حياته بالمداد المرّ.
يأتي نوفمبر كل عام كجرس إنذار. شهرٌ يذكّر المغرب والعالم بأن أكثر كاتب دوّى صوته من الهامش الجنوبي لم يتعلم القراءة والكتابة إلا وهو في العشرين. نعم… في العشرين! في العشرين، حين كان غيره يكتب رسائل الحب، كان شكري يتعلم كيف يكتب اسمه.
كان شكري ابن الجوع، لا ابن الأدب. ابن الشارع، لا ابن الصالونات. ولذلك كان صوته هو الأكثر صدقًا حين كتب “الخبز الحافي”—الكتاب الذي لن ينساه من قرأه، ولا من حظره، ولا من خاف أن يدخله البيت. كتاب فضح المسكوت عنه في الجسد والمجتمع والسلطة والأب والفقر. كتاب كتب نفسه بدم لا بحبر.
عندما قرأت روايته “الخبز الحافي” وانا في الجامعه لم تكن رواية. كان اعترافًا طويلًا وغاضبًا وعرّيًا، كتبَهُ شكري بجرأة تُشبه جرأة من يقف على حافة السطح ويصرخ: “هكذا وُلدت… فماذا ستفعلون؟”
فيه:
• الأب السكران، القاسي كحذاء عسكري، الذي قتل أخاه الصغير بقدمه.
• الأم المكسورة، التي تبحث عن أي شق ضوء.
• الأطفال المتسولون، اللصوص، الهاربون، الذين يعرفون الشارع أكثر من أسرّتهم.
• الجسد حين يتحول إلى وسيلة للبقاء.
• المدينة حين تكون فخًا للجائعين، وملجأ للغرباء، ومختبرًا لجنون العالم.
لقد كتب شكري ما لم يجرؤ المغاربة والعرب على النظر إليه. فضح الفقر كما هو، من دون أن يغسله بالصابون الأخلاقي أو المساحيق الدينية. لم يطلب البراءة، بل طلب الحقيقة.
كان شكري الرجل الذي جاء من “الهامش الجنوبي العالمي” بحق. من قرية بائسة في الريف، إلى طنجة التي أكلت الكثيرين، لكنها لم تستطع هضمه. لم يحفظ شكري الشعر الجاهلي، ولم يتخرج من جامعة، ومع ذلك هزّ المكتبة العربية كلها. واصبحت كتبه تدرس في الجامعات العالمية .
لم يكن يريد أن يمثل “الفقراء” بل أن يفضح آليات سحقهم.
لم يكن يريد “ترميم الهوية” بل كسرها.
لم يكن يريد “الاعتراف” بقدر ما كان يريد أن يقول:
لماذا نكتب عنه الآن؟
لأن العالم لا يزال يجمّل فقره.
لأن الهامش لم يصبح مركزًا بعد.
لأن أصواتًا كثيرة تُدفن كل يوم تحت لغة خشبية، تحت فضائح سياسية واقتصادية تُخفي مأساة الإنسان نفسه.
نكتب عنه لأن أدب الاعتراف لم يولد إلا عندما كتب شكري الخبز الحافي. ولأن كثيرًا من كتّاب اليوم يكتبون عن الفقر من شرفات الفنادق، بينما كتب شكري عنه من قلب المعركة، من بطن الشارع.
محمد شكري لم يكن مجرد كاتب روائي. كان مرآةً حادةً وشرسة، لا تعكس وجهك بل تقطعه.
وفي نوفمبر، كل سنة، نعود إليه لا لنقرأه فقط…
بل لنُذكّر أنفسنا بأن الأدب الحقيقي قد يكون قاسيا فاجرًا، صادمًا—لكن لا يمكن تجاهله. عبد العزيز ابوعاقلة. نوفمبر 2025 azizabuaglah@gmail.com