بحث

رسالة مفتوحة إلى الحكومة البريطانية:

مصطفى بن خالد

 

شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم 
مـــصـــطــفـــى بن خالد

رسالة مفتوحة إلى الحكومة البريطانية:

اليمن عند مفترق مصيري… والمسؤولية التاريخية لبريطانيا في صناعة السلام

في لحظة مفصلية من تاريخ اليمن الحديث، تأتي زيارة الوفد الدبلوماسي البريطاني إلى عدن – بقيادة سعادة السفيرة عبده شريف ومعالي الوزير هميش فولكنر – كإشارة سياسية تتجاوز البروتوكول. 

لقد استقبلها اليمنيون، بكل أطيافهم، كعلامة على أن بريطانيا ربما تعيد ترتيب أولوياتها في المنطقة، ليس من باب الإغاثة أو إدارة الأزمة، بل من باب صناعة التحوّل الحقيقي.

فهذه البلاد المنهكة لم تعد تحتمل المزيد من الدوران في الحلقة نفسها. 
ومع ذلك، ما يزال اليمن يمتلك من الجغرافيا والثروة والإنسان والتاريخ ما يجعله نقطة ارتكاز مهمة في توازنات البحر الأحمر، وفي أمن التجارة الدولية، وفي استقرار الشرق الأوسط برمّته. 
ولهذا، فإن أي دور بريطاني اليوم لا يمكن أن يكون عادياً… ولا هامشياً.

أولاً: اليمن… بلد الصراع المركّب والفرص الضائعة

على مدى أكثر من عشر سنوات، ظلّ اليمن ساحةً تتقاطع فيها المصالح الإقليمية والدولية. 
بدأ الصراع من رحم التحولات السياسية في 2011، لكنه سرعان ما تحوّل إلى حرب متعددة الطبقات:
 1. صراع سلطات داخلية بين قوى تتنافس على الحكم دون رؤية وطنية جامعة.
 2. صراع إقليمي بين مشاريع النفوذ التي عكست نفسها على الداخل اليمني، فأصبح البلد مرآة لصراعات الآخرين.
 3. صراع اقتصادي تحوّل فيه “اقتصاد الحرب” إلى مصدر بقاء لأطراف كثيرة، داخلية وخارجية.
 4. صراع جيوسياسي دولي ازداد عمقاً بعد أن باتت الممرات البحرية هدفاً مباشراً للتهديدات.

هذه الطبقات جعلت أي مقاربة سطحية للسلام مجرّد مسكنات مؤقتة. 
وما زاد التعقيد هو تآكل مؤسسات الدولة في مقابل صعود جماعات مسلّحة تمتلك قرار الحرب ولا تمتلك مشروع الدولة.

ثانياً: لماذا فشلت كل محاولات السلام السابقة؟

منذ 2015 وحتى اليوم، عُقدت مبادرات كثيرة: ستوكهولم، مشاورات الكويت، إعلان الرياض، هدنة 2022، والمبادرات الأممية المتتالية. 
ومع ذلك، لم يتحقق أي منها بشكل كامل.

الأسباب واضحة لمن يتتبع المشهد بدقة:
 • الحلول المفروضة من الخارج دون حوار وطني حقيقي شامل لايستثني أحد.
 • تضارب أجندات الوسطاء؛ كل وسيط يريد سلاماً يناسب مصالحه لا مصالح اليمنيين.
 • غياب الضمانات الدولية لإلزام الأطراف بما توقّعه.
 •استفادة قوى عديدة من استمرار اقتصاد الحرب.
 • العسكري مقابل السياسي دائماً، حيث يتم التعامل مع الملف كملف أمني لا سياسي.

وهنا تأتي أهمية بريطانيا، لأنها واحدة من الدول القليلة التي تستطيع جمع كل الأطراف، وتوحيد رؤية المجتمع الدولي، وفهم تعقيدات اليمن من زاوية استراتيجية لا إنسانية فقط.

ثالثاً: لماذا هذه اللحظة مناسبة للسلام أكثر من أي وقت مضى؟

هناك متغيرات داخلية وإقليمية ودولية تهيّئ الأرضية لسلام مختلف:
 • الأطراف اليمنية استُنزفت عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.
 • دول الإقليم باتت تبحث عن تخفيض التوتر وتهدئة الملفات المفتوحة.
 • التوترات في البحر الأحمر جعلت المجتمع الدولي يدرك أن أمن اليمن ليس شأناً محلياً.
 • الأزمة الاقتصادية العالمية دفعت الجميع لإعادة تقييم الأولويات.
 • تطوّر الوعي الشعبي داخل اليمن باتجاه رفض مشاريع التفكيك والهيمنة.

هذه العوامل مجتمعة تخلق نافذة لا ينبغي أن تضيع… وهنا تحديداً يبرز الدور البريطاني.

رابعاً: لماذا اليمن مصلحة مباشرة لبريطانيا؟

لم يعد اليمن ملفاً بعيداً عن الحسابات البريطانية. فالمملكة المتحدة لديها أسباب استراتيجية واضحة للتحرك:

1. أمن الممرات البحرية والتجارة الدولية

باب المندب ليس ممرّاً إقليمياً بل رئة اقتصادية للعالم. أي اضطراب فيه ينعكس فوراً على:
 • حركة سفن الطاقة
 • سلاسل الإمداد
 • أسعار النقل العالمي
 • حركة التجارة بين آسيا وأوروبا

2. تحديات الإرهاب والتهديدات العابرة للحدود

الجماعات المتطرفة تنتعش حين تضعف الدولة. واليمن ليس استثناءً. 
استقرار اليمن يصبّ مباشرة في أمن الشرق الأوسط وأمن أوروبا.

3. التنافس الدولي في البحر الأحمر

صعود قوى عالمية جديدة – الصين، روسيا، وتركيا – جعل المنطقة ساحة تنافس. 
لبريطانيا مصلحة في الحفاظ على نفوذها التاريخي وضمان التوازن.

4. فرص إعادة الإعمار

اليمن يمكن أن يتحول خلال عقد إلى:
 • أكبر سوق إعمار في المنطقة
 • محور لوجستي مهم
 • مركز اقتصادي ناشئ في بحر العرب

وهذه مساحة يمكن لبريطانيا أن تكون شريكها الأول.

خامساً: ما الذي يريده اليمنيون… وما لا يريدونه؟

رغم الانقسام، هناك قواسم مشتركة لدى أغلبية اليمنيين:

ما يريدونه:
 • دولة مدنية ديمقراطية اتحادية
 • جيش وطني واحد
 • سيادة غير مرتهنة لأي قوة خارجية
 • توزيع عادل للثروة
 • نظام سياسي قابل للحياة
 • سلام يحفظ كرامة الجميع
 • استقرار اقتصادي وتنموي طويل الأمد.

وما لا يريدونه:
 • استمرار التبعية
 • حكم الميليشيات
 • تدخلات الخارج
 • سلام شكلي يعيد إنتاج الصراع.

سادساً: كيف يمكن لبريطانيا أن تُحدث الفرق؟

الدور الحقيقي لا يكمن في البيانات، بل في الخطوات العملية:

1. رعاية “طاولة حوار يمنية – يمنية” شاملة
ليست مفروضة، ولا خاضعة لفيتو خارجي، تجمع القوى السياسية والمجتمعية بدون استثناء.

2. توحيد الموقف الدولي
استخدام وزن بريطانيا داخل مجلس الأمن لإنهاء ازدواجية المواقف الدولية.

3. الضغط على الأطراف الإقليمية
لوقف التدخلات السلبية التي تطيل الصراع وتنهك الدولة.

4. توفير ضمانات للمرحلة الانتقالية
سياسية، اقتصادية، وأمنية.

5. قيادة تحالف لإعادة بناء المؤسسات
خصوصاً:
 • البنك المركزي
 • المؤسسة العسكرية
 • أجهزة الرقابة المالية
 • السلطة القضائية

6. إطلاق “خطة مارشال مصغّرة لليمن”
بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، تركز على:
 • البنية التحتية
 • الموانئ
 • الطاقة
 • التعليم
 • الصحة
 • الاقتصاد الرقمي

سابعاً: اليمن… المستقبل الذي يمكن بناؤه

خلال 10 سنوات فقط، يمكن أن يصبح اليمن:
 • دولة اتحادية مستقرة
 • محوراً تجارياً في البحر الأحمر
 • منطقة جذب لاستثمارات الطاقة والموانئ
 • لاعباً إقليمياً إيجابياً
 • اقتصاداً ناشئاً لا يعتمد على الريع
 • بيئة آمنة للتنمية والسياحة والاستثمار.
وهذا ليس خيالاً… بل خيار سياسي.

ختام الرسالة المفتوحة:

إلى الحكومة البريطانية نقول:
إن زيارتكم إلى عدن ليست حدثاً عابراً، بل نقطة انطلاق.

اليمنيون يبحثون عن شريك دولي نزيه، متوازن، مؤثر، قادر على جمع الأطراف، وقادر على حماية التسوية.

وبريطانيا اليوم أمام فرصة تاريخية:
إما أن تكون صانعة سلام في واحدة من أكثر حروب المنطقة تعقيداً، أو أن تترك الفراغ لغيرها.

إن اليمنيين يريدون السلام…
ويريدون من بريطانيا أن تكون الجسر إليه.

آخر الأخبار