بحث

لماذا يهرب البرهان من وقف إطلاق النار؟

عبد العزيز ابوعاقلة

 

“السلطة حين تخاف من اليوم التالي، تُفضّل الخراب على الهزيمة.”

 

منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، لم يعد سؤال السودانيين هو : متى يتوقف إطلاق النار؟ بل أصبح: لماذا يصرّ البرهان على استمرار نزيف البلاد؟ فالجيش الذي يرفع شعار “السيادة” لرفض مبادرات الرباعية، لا يفعل ذلك دفاعًا عن الوطن، بل دفاعًا عن منظومةٍ تشكّلت داخل أروقة النظام القديم وما زالت تتحكم في قراره وتوجه بوصلته. لقد تحوّل البرهان إلى رهينة لمراكز قوى داخل الجيش والحركة الإسلامية، ترى في وقف إطلاق النار تهديدًا مباشرًا لنفوذها وامتيازاتها ومستقبلها السياسي. وهكذا يصبح استمرار القصف، والجوع، والنزوح، ثمناً مقبولاً بالنسبة لهم، ما دام يضمن بقاء سلطتهم. وبينما يتذرّع البرهان بالسيادة، تُسحق المدن ويباد المواطنين العزل .

 

ومع كل مبادرة لوقف إطلاق النار، يخرج البرهان ليكرر خطابًا محفوظًا: “الدولة مستهدفة… معركة الكرامة… لا حلول نصفية… لا وقف إطلاق نار والمليشيا داخل المدن…”.

لكن خلف هذه الشعارات الصدئة يكمن السؤال الذي يحاول الجميع الهروب منه: لماذا يرفض البرهان وقف الحرب؟

 

السبب بسيط وصادم: لأن السلام أخطر عليه من القتال.

لأن توقف المدافع يعني بداية الحساب، وبداية انهيار التحالف بين قيادات الجيش والحركة الإسلامية الذي استعاد أنفاسه عقب انقلاب 2021.

لأن اليوم التالي للحرب سيكشف كل شيء:عن جريمة فض الاعتصام وقتل وسحل واغتصاب المدنيين من الشباب /ت 

من نهب موارد الدولة، إلى اقتصاد الظل الذي تبنيه شبكات الإسلاميين، إلى انسحاب قيادات الجيش من المدن و جثث المدنيين التي تراكمت في شوارع الخرطوم ودارفور وكأنها جزء من “ثمن السلطة”.

 

يقول غرامشي:

“الأزمة تحدث عندما يموت القديم ولا يستطيع الجديد أن يولد.”

والسودان يعيش اليوم في هذه المنطقة الرمادية تمامًا: القديم — دولة الإسلاميين — رفض أن يموت، والجديد — التحول الديمقراطي الحقيقي — مُنع من أن يولد. ولذلك تستمر الحرب: لأن الولادة ممنوعة، ولأن الموت مؤجل بقوة السلاح لا بقوة الشرعية.

 

يصرّ البرهان على أن الحرب دفاع عن “وحدة السودان”، لكن السودان لم يتفتت في تاريخه الحديث كما يتفتت اليوم. 

يصرّ أن الهدنة تقسم البلاد، بينما الحقيقة أن الحرب — حربه هو — هي التي مزّقت الخرطوم، وكسرت دارفور، وحولت الجزيرة إلى ساحة موت.

يصرّ أن المساعدات الإنسانية لا تُعاق، بينما آلاف الجثث تحت الأنقاض، وآلاف الأسر تموت عطشًا وجوعًا.

يصرّ أن “لا أحد يفرض عليه حمدوك أو حميدتي”، لكنه لا يشرح لماذا يجب أن يُفرض هو على الناس رغم فشله وضياعه وتسبّبه في أسوأ كارثة إنسانية في تاريخ السودان.

 

إنه يتحدث وكأن السودان مزرعة خاصة له ، وكأن الشعب مجرد تفصيلة مزعجة في معركة البقاء التي يخوضها النظام القديم بأظافره الأخيرة.

وكأن اكثر منً ثلاثين سنة من فساد الإسلاميين لم تكفِ، فجاءت الحرب لتختم ما بقي من خراب.

 

وهذا ما يحدث اليوم: السلطة تخاف من اليوم التالي، لكنها لا تواجه خوفها، بل تصدره للمدنيين ليحترقوا بدلاً عنها.

وهكذا أصبح وقف إطلاق النار ليس تهديدًا للأمن، بل تهديدًا للسياسة — سياستهم هم — لأن السلم يعني عودة الأسئلة التي أُخمدت بالدبابات: من يحكم؟ لماذا يحكم؟ وبأي حق؟

 

السودان لن يرى السلام، لا اليوم ولا غدًا، طالما الجيش يحتضن الحركة الإسلامية ويقاتل لأجل مشروعها لا لأجل الوطن، وطالما الدعم السريع — في صورته الجديدة — هي صورته القديمة وهو امتداد للجنجويد في افعاله التي رعاها البشير.

لن يرى السلام طالما تُدار البلاد بمنطق “احرق لتبقى”، وطالما صارت حياة الشعب مادة تفاوض لصراعات جنرالات فقدوا أي علاقة بالواقع.

وهنا تبرز الحقيقة المرّة:

إن البرهان لا يهرب من وقف إطلاق النار خوفًا من الدعم السريع، بل خوفًا من الامتيازات التي تفقد بل خوفا من الشعب نفسه.

خوفًا من أن يقف هذا الشعب والوطن بعد أن تتوقف المدافع، وينظر في عينه ويقول:

من دمّرني؟ من سرق عمري؟ من باع الخرطوم؟ من حوّل الفاشر إلى جحيم؟ من جعل النزوح قدرًا أبديًا لملايين البشر؟

ومن يحكم رغم أنه لم ينتخبه أحد، ولم يحمِ أحد، ولم يربح شيئًا سوى الزمن المهدر؟

 

كما قال نيتشه:

“من يحيا على الكذب يحتاج دائمًا إلى الحرب.”

والحرب اليوم ليست دفاعًا عن السودان، بل دفاعًا عن آخر ما تبقى من وهم الدولة العسكرية التي لم تنجح يومًا في بناء وطن، بل نجحت فقط في بناء مقابر أكبر.

وإلى أن يستعيد السودانيون وحدة ارادتهم السياسية ويستعيدوا وطنهم من قبضة الجنرالات ومن رصاص الحركة الإسلامية ومن فوضى المليشيات، سيظل هذا السؤال يطارد الجميع:

إلى متى سيبقى المواطن السوداني يدفع ثمن حربٍ لم يخترها، ولم يستفد منها، ولم يُستشر فيها؟

السودان اليوم لا يحتاج إلى هدنة فقط، بل إلى شجاعة جماعية لصياغة وطن جديد عنوانه الأساسي العدل والكرامة والحرية …

شجاعة أن نقول الحقيقة لا لعسكرة السياسة وشجاعة أن نواجهها، وشجاعة أن نبني بلدًا لا يحتاج فيه الناس إلى الموت كي يثبتوا أنهم يستحقون الحياة. 

آخر الأخبار