البرهان يسرق كوش الأفريقية ليبيعها لترامب توراتية
عبدالعزيز ابوعاقلة
من أغرب ما يمكن أن يفعله جنرال عسكري غارقٌ في حربٍ ما يقارب 31 شهرا … ولا زالت خسر فيها الأرض والشرعية معًا، أن يمدّ يده إلى آلاف السنين ليعيد كتابة التاريخ. هكذا ظهر عبد الفتاح البرهان في مقاله بـ”وول ستريت جورنال”الصحيفة الأمريكية متحدثًا عن كوش بوصفها “مملكة توراتية”، وكأن حضارة السودان العريقة كانت تنتظر جنرالًا مُتعَبًا ليعيد تعريفها أمام القرّاء الأميركيين.
لكن البرهان — الذي بدأ كل شيء بكذبة “حلم الحكم” — لا يجد غضاضة في أن يضيف فوقها كذبة أكبر: كذبة ربط كوش بالتوراة لإضفاء قداسة دينية على خطابه. المشكلة؟ أن التوراة نفسها تنفي ذلك نصًا، لا تأويلًا ولا اجتهادًا.
النص واضح وصريح:
«وَبَنُو حَامٍ: كُوشٌ وَمِصْرَايِمُ وَفُوطٌ وَكَنْعَانُ»
(سفر التكوين 10: 6)
هذا السطر وحده يُسقط الرواية من أساسها:
فكوش ليست مملكة عبرانية، ليست توراتية، ليست جزءًا من إرث بني إسرائيل الديني والسياسي وليست لها علاقة باي طقوس توراتية من قريب او بعيد .
كوش هي أرض أفريقية — سودانية — من نسل حام، جنوب مصر.
لا تحتاج المسألة إلى مجلس سيادي أو لجنة تفسير، فقط إلى قراءة نصف سطر من كتاب عمره ثلاثة آلاف سنة.
بل إن المؤرخ الإغريقي هيرودوت — الذي كتب قبل ظهور “التحليل السياسي السيادي” بثلاثة وعشرين قرنًا — يقول بوضوح في تاريخه (الكتاب الثاني، الفقرات 30–32):
( الكوشيون شعب أفريقي مستقل، يمتد جنوب مصر، ويملكون مملكة قوية ذات حضارة مميزة.) انتهي .
أي أن العالم القديم بأكمله — نصوصًا، آثارًا، نقوشًا، مؤرخين — أجمع على أن كوش أفريقية تاريخاً وحضارة خالصة، سودانية الانتماء، لا علاقة لها بالتوراة ولا ببني إسرائيل.
لكن البرهان قرر أن يكتب للتاريخ بطريقة الغش والخداع كما تدار حربه اوً كأنه يكتب لمؤسسة سيادية:
القليل من الحقائق، الكثير من الدعاية، ورشة تجميل لغوية.
الجنرال الذي عجز عن حماية الخرطوم يحاول الآن حماية سرده السياسي باستخدام التوراة.
والجنرال الذي مزّق ما تبقى من الدولة يريد أن يلصق نفسه بحضارة قامت قبل ظهور العهد القديم التوراتي نفسه.
ولأن الجمهور الأميركي يحب الكلمات «العميقة»، أدخل البرهان مصطلح “مملكة كوش التوراتية” كمن يلصق نجمة على صدره ليعوّض نقص الإنجاز. لكن التاريخ لا يُستعمل مثل أوسمة الخدمة الطويلة. والتوراة ليست دفتر حضور وانصراف.
إن كوش — بكل ما فيها من ملوك وملكات، أهرامات، معابد، وتراث نوبي عظيم — لم تكن في يوم من الأيام «ملحقًا» لكتاب سماوي. كانت حضارة الذات، لا حضارة الاقتباس. كانت القوة، لا التابع. كانت مركزًا، لا هامشًا.
أما تحويلها إلى “كيان توراتي” فذلك ليس قراءة، بل تزوير. ليس تأويلًا، بل خرافة دينية وسياسية. ليس معرفة بالتاريخ، بل طلب للشرعية الرمزية أمام البيت الأبيض والكونغرس واللوبيات.
والأخطر من الكذبة هو ما تكشفه:
أن الرجل الذي فقد الحاضر، بدأ يسطو على الماضي.
أن الجنرال الذي لم يستطع أن يكتب مستقبل السودان يحاول الآن أن يكتب ماضيه.
لكن الماضي لا يبدل Exchange ، ولا يُباع sell بمرسوم، ولا يُساق بخطاب.
كوش كانت وستظل حضارة سودانية أفريقية — ليس لأننا نقول ذلك، بل لأن النصوص التي يستشهد بها البرهان نفسه تقول ذلك.
وإذا كانت الحرب قد شوّهت صورة السودان، فإن تزوير التاريخ يشوّه ما تبقّى من معناه. عبدالعزيز ابوعاقلة azizabuaglah@gmailcom