بحث

اليمن بين ذاكرة الجلاء ورهانات الجغرافيا السياسية: قراءة في معاني السيادة والوصاية والتحوّلات

مصطفى بن خالد

 

شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم 
مـــصـــطــفـــى بن خالد

اليمن بين ذاكرة الجلاء ورهانات الجغرافيا السياسية: 
قراءة في معاني السيادة والوصاية والتحوّلات

أولاً: الجلاء بوصفه لحظة تأسيسية في بنية الوعي الوطني

يستحضر اليمنيون في الثلاثين من نوفمبر كل عام حدثاً يتجاوز حدود الاحتفال الرمزي، ليغدو نقطة ارتكاز في التاريخ السياسي الحديث لليمن. 
فالجلاء في عام 1967 لم يكن مجرد انسحاب آخر جندي بريطاني من جنوب البلاد، بل شكل لحظة إعادة تشكّل للهوية الوطنية، ومفصلاً تاريخياً أعاد تعريف علاقة اليمنيين بذواتهم، وبموقعهم في الخريطة الإقليمية والدولية.

لقد جاءت تلك اللحظة تتويجاً لمسار طويل من التفاعل الاجتماعي المعقّد، حيث تشكلت حركة التحرر الوطني كـ بنية مجتمعية واسعة، شاركت فيها كل طبقات المجتمع: 
من القوى العمالية والفلاحين، إلى النخب الفكرية والطلابية، وصولاً إلى الحضور البارز للمرأة اليمنية التي لم تكن عنصراً مكملاً بل فاعلاً رئيساً في صياغة معادلة المقاومة.

هذا التكوين الاجتماعي المتماسك وفّر للحركة التحررية قدرة عالية على المناورة والصمود، وأسّس — من منظور علم الاجتماع السياسي — لنموذج عربي نادر في تكامل البنية السياسية مع البنية الشعبية، الأمر الذي منح المشروع التحرري شرعيته وقوته الاستراتيجية.

لقد أنتج ذلك المسار وعياً وطنياً جديداً، يقوم على مفهوم سيادة الإرادة الجمعية باعتبارها الأساس الأول لبناء الدولة. 
وأثبتت التجربة اليمنية أن المجتمعات، حين تتوحد رؤيتها ويستقيم وعيها الجمعي، تصبح قادرة على مواجهة منظومات استعمارية أثقل عدّة وأوسع نفوذاً، وأن الشرعية التي تصنعها الشعوب — لا القوى الخارجية — هي وحدها القادرة على الصمود في مواجهة اختبارات التاريخ.

ثانياً: ارتجاج الحاضر… وانحراف بعض الفاعلين المحليين عن مسار السردية الوطنية

على الرغم من رسوخ الذاكرة التحررية في الوجدان اليمني، تبدو الساحة السياسية في الجنوب اليوم محمّلة بمفارقة حادّة تكشف عن خلل في البوصلة الوطنية وتراجع في منظومة القيم التي أسست لمرحلة الجلاء. 

فقد برزت خلال السنوات الأخيرة فواعل محلية تبنّت مواقف متماهية مع مشاريع إقليمية ودولية، وانخرطت في ترتيبات لا تنسجم مع بنية الجغرافيا التي صاغت يوماً أبهى صور التضحية في سبيل الاستقلال.

إن هذا الانحراف لا يمكن قراءته بوصفه مجرد اختلاف سياسي أو اصطفاف تكتيكي، بل هو ـ في جوهره ـ تحوّل بنيوي في السلوك السياسي، يعتمد على حسابات النفوذ والامتيازات الآنية، ويجري بمعزل عن المصلحة الجمعية للمجتمع المحلي. 
وهو ما يجعل المشهد المعاصر يبدو كما لو أنه قطيعة مع الإرث التحرري الذي تكرّست قيمه بدماء المقاتلين وروح الجماعة الوطنية.

ومن منظور العلوم السياسية، يمثل هذا التوجه خروجاً واضحاً من إطار السردية الوطنية الموحدة إلى حالة من التشرذم السياسي والتبعية الاستراتيجية، الأمر الذي يقوّض القدرة على إنتاج قرار داخلي مستقل، ويُضعف مناعة الدولة في لحظة إقليمية تتسم بتسارع التحولات وتضارب مصالح القوى المؤثرة.

إن الاصطفاف في محراب الصراع الخارجي لا يؤدي إلا إلى مزيد من تفكيك البنى الاجتماعية، وإعادة هندسة الولاءات على أسس مصلحية ضيقة، وهو ما يعمّق هشاشة الدولة في مرحلة تاريخية تتطلب أقصى درجات الاتزان والتماسك. 
فغياب رؤية وطنية جامعة يفتح الباب أمام إعادة تشكيل المشهد اليمني وفق إرادات أخرى، ويجعل الداخل ساحة مفتوحة لرهانات لا تُبنى عليها دولة ولا تنهض بها أمة.

ثالثاً: الدور الإقليمي… اليمن في قلب التنافس الجيوسياسي وتحولات موازين النفوذ

لا يمكن فهم المشهد اليمني الراهن بمعزل عن البعد الإقليمي الذي يشكل أحد أكثر مستويات الصراع تعقيداً وتشابكاً. 
فالموقع الجغرافي لليمن على خطوط الممرات الدولية، وامتداده على الضفتين الجنوبية للبحر الأحمر والشرقية لخليج عدن، جعلاه ـ تاريخياً ـ نقطة جذب للقوى الإقليمية والدولية التي تنظر إليه بوصفه مركز ثقل لوجستي واستراتيجي ينعكس تأثيره مباشرة على التجارة العالمية وأمن الطاقة والملاحة.

وفي هذا السياق، يبرز الدور الإماراتي بوصفه أحد أهم الفواعل الإقليمية المنخرطة في الملف اليمني خلال السنوات الأخيرة، من خلال بناء شراكات مع قوى محلية، أو عبر المشاركة في ترتيبات أمنية واقتصادية تتعلق بالموانئ والجزر والممرات الحيوية. 
ويرى عدد من الباحثين أن هذا الدور يأتي ضمن مقاربة أوسع لإعادة ضبط موازين النفوذ في جنوب البحر الأحمر وباب المندب، وهي منطقة تشهد تنافساً متنامياً بين قوى متعددة تسعى لتعزيز حضورها الاستراتيجي.

ورغم تباين المقاربات التحليلية حول أهداف هذا الحضور وطبيعته، إلا أن القراءة العامة للمشهد تشير إلى أن جزءاً من إدارة الملف اليمني يتم ضمن منظور حسابات خارجية تتحدد وفق اعتبارات الأمن الإقليمي والتحالفات الدولية، أكثر مما تتحدد وفق متطلبات بناء الدولة اليمنية أو أولويات مشروع وطني داخلي.

هذا التعقيد دفع عدداً من المراكز البحثية والخبراء في شؤون الأمن الإقليمي إلى التحذير من أن استمرار تعدد الأجندات وتضاربها قد يفتح المجال لتحويل اليمن إلى منصة مفتوحة للتنافس الجيوسياسي، وهو ما يهدد عملية إعادة بناء الدولة، ويؤثر على توازن القوى داخل المجتمع اليمني نفسه، وقد يُطيل من أمد التشظي السياسي والأمني إذا غابت الرؤية الوطنية القادرة على استعادة زمام المبادرة.

رابعاً: الرباعية الدولية… وتناقص هامش القرار الوطني

يحتلّ ما يُعرف بـ “الرباعية الدولية” — المكوّنة من السعودية والإمارات والولايات المتحدة وبريطانيا — موقعاً محورياً في هندسة المشهد السياسي اليمني، سواء من خلال تأثيرها في مسارات التفاوض، أو عبر دورها في تشكيل البيئة الإقليمية المحيطة بالملف اليمني. 
وبفعل تداخل المصالح وتشابك السياسات، أصبح جزء معتبر من القرارات المفصلية المرتبطة بالمشهد اليمني يُناقش أو يُصاغ خارج الحدود الجغرافية للدولة، في وقت يعاني فيه الداخل من انقسام سياسي وضَعف مؤسسي يحدّ من قدرته على إنتاج قرار وطني مستقل.

وتبدو المؤسسات الرسمية، من مجلس القيادة الرئاسي إلى معظم الكيانات الحزبية والمكونات السياسية، في حالة تراجع عن دورها التقليدي في صياغة الرؤية الوطنية الجامعة، نتيجة تراكم الأزمات البنيوية، وتنامي مراكز القوى غير الرسمية، وتضارب الولاءات السياسية والعسكرية. 
وهو ما يخلق بيئة تعيق تشكّل إرادة سياسية موحدة، وتحدّ من إمكانية استعادة المبادرة الوطنية في مسار إعادة بناء الدولة.

ويذهب عدد من الباحثين في دراسات السيادة والدولة الضعيفة إلى أنّ هذا الوضع يعكس أزمة سيادية مركّبة تتجاوز البعد العسكري أو الأمني. 
فالتحدي لا يكمن فقط في استمرار الحرب، بل في تآكل قدرة الدولة على إدارة شؤونها وفق منطق داخلي خالص، وفي اتساع الفجوة بين المؤسسات الرسمية وبين منظومة التأثيرات الإقليمية والدولية.

إن تباين الأولويات بين الفاعلين الخارجيين، وتعدد مسارات النفوذ، وتعارض مقاربات الحل، كلها عوامل أسهمت في تشكيل مشهد بالغ التعقيد جعل القرار الوطني محكوماً — في جزء منه — ببيئة خارجية تتقاطع فيها المصالح ولا تتطابق، وتتفاعل فيها الترتيبات الإقليمية مع متطلبات الأمن الدولي على حساب انتظام القرار المحلي واتساقه.

خامساً: دلالات الجلاء… السيادة كمنهج فاعل لا كذكرى احتفالية

في سياق هذا المشهد المركّب الذي تتقاطع فيه العوامل المحلية والإقليمية والدولية، تبرز ذكرى الجلاء بوصفها إطاراً تأسيسياً يعيد ضبط اتجاه البوصلة الوطنية، أكثر مما تمثل مناسبة رمزية تستعاد في الذاكرة العامة. فـ30 نوفمبر لم يكن ـ في جوهره ـ يوماً لتجريف وجود قوة استعمارية فقط، بل لحظة بلورة لنموذج سيادي يعبّر عن قدرة المجتمع اليمني على صياغة مساره التاريخي بإرادته الحرة.

فالجلاء ليس حدثاً مجاوراً في الذاكرة، ولا لوحة معلّقة على جدار الزمن، بل آلية مستمرة لقياس حيوية الإرادة الوطنية وقدرة الدولة والمجتمع على حماية استقلالهما السياسي. 
إنه معيار يكشف مدى صلابة البنية الوطنية، وقابليتها لمواجهة التحديات، وقدرتها على إنتاج قرار يستند إلى مشروع داخلي لا إلى حسابات قوى الخارج.

إن الدرس المركزي الذي تقدمه ذكرى 30 نوفمبر يتمثل في أن عملية التحرر لا تُختزل في خروج قوة أجنبية، بل تتحقق من خلال تماسك الجبهة الداخلية، وصيانة الهوية الوطنية من التشويه أو التوظيف الخارجي، وامتلاك القدرة على رفض أي شكل من أشكال الهيمنة ـ سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو أمنية.

ومن منظور الدراسات المعاصرة في علم السيادة، تبرز السيادة كـ عملية ديناميكية لا تُمنح مرة واحدة، بل تُعاد صياغتها باستمرار عبر إدارة الموارد، وتماسك الشرعية، وتماسك المجتمع في مواجهة الأزمات. 
إنها فعل مستمر يتطلب وعياً وطنياً لا يلين، وإرادة سياسية قادرة على مواجهة الضغوط ورفض الارتهان، وتشكيل خيارات وطنية تتسق مع مصالح الشعب وأمن الدولة واستقرار مؤسساتها.

إن استعادة السيادة اليوم لا تعني استعادة الماضي، بل استيعاب دروسه وتوظيفها في إعادة صياغة الحاضر وبناء المستقبل. 
فذكرى الجلاء ليست محطة للنظر إلى ما مضى، بل نقطة انطلاق لفهم ما يجب أن يكون، ولترسيخ حقيقة أن اليمن ـ كلما امتلك قراره وأعاد إنتاج وحدته ـ استطاع أن يعيد ترتيب المشهد وفق منطق الجغرافيا والتاريخ، لا بمنطق اللاعبين العابرين.

الخلاصة :

الجلاء كمرآة للمستقبل وإعادة تأسيس السيادة

إذا كان الثلاثون من نوفمبر 1967 يمثل محطة تاريخية فارقة، فإن الدرس الذي تحمله ذكرى الجلاء يتجاوز الاحتفال السنوي ليصبح مرجعاً دائماً لفهم طبيعة السيادة الوطنية ومسؤولية الحفاظ عليها. 
فقد أظهر التاريخ أن التحرر ليس مجرد حدث لحظي، بل عملية مستمرة تتطلب وحدة الصف، ووضوح الرؤية، وصلابة الإرادة، إضافة إلى القدرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية على حد سواء.

تتجسد أهمية هذا الدرس في خمسة أبعاد مترابطة: أولاً، الوعي التحرري المؤسَّس على تاريخ مشترك وتجربة جماعية تشكلت عبر نضال متكامل للمجتمع اليمني ثانياً، ارتجاج الحاضر والانحراف عن المسار الوطني الذي يبرز في الاصطفافات المحلية المهيمنة عليها حسابات النفوذ المؤقت؛ ثالثاً، الدور الإقليمي المعقّد، الذي وضع اليمن في قلب صراعات جيوسياسية تتجاوز حدوده وتعيد صياغة معادلات القوة في المنطقة؛ رابعاً، تآكل القرار الوطني نتيجة تدخلات الرباعية الدولية وضعف المؤسسات المحلية؛ وخامساً، معنى الجلاء كمنهج لممارسة السيادة، لا كذكرى عابرة.

وفي هذا السياق، يظهر أن استعادة اليمن لموقعه كدولة فاعلة لا تتحقق فقط بالانسحاب العسكري أو التوقيع على اتفاقيات، بل عبر إعادة إنتاج القرار الوطني، وترسيخ الوحدة الداخلية، وحماية الهوية والجغرافيا الوطنية من أي وصاية. 
فاليمن، بجغرافيته الاستراتيجية وتاريخه الحضاري العميق، يملك القدرة على فرز القوى الحقيقية من العابرة، واستعادة زمام المبادرة في رسم مستقبله وفق معاييره الداخلية، شريطة أن تستند الإرادة الوطنية إلى رؤية شاملة متكاملة لا تتأثر بحسابات خارجية قصيرة المدى.

إن ذكرى الجلاء، بهذا المعنى، تصبح أداة تحليلية واستراتيجية لا تُعيد النظر فقط في الماضي، بل توفر إطاراً للتخطيط للمستقبل: 
مستقبل يقوم على السيادة المستمرة، والوعي الوطني الجامع، والقدرة على حماية القرار الداخلي، وضمان بقاء الدولة صلبة في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية. 

وفي هذا الإطار، يتحول 30 نوفمبر من مجرد تاريخٍ في الذاكرة إلى مرآة تكشف عن القوة الكامنة في اليمن، وعن الإمكانية الدائمة لإعادة ترتيب المشهد وفق مصالحه وموقعه الحضاري الجيوسياسي.

آخر الأخبار