بحث

الانتقالي في ساحة العروض: من جلاء الأمس إلى ارتهان اليوم

مصطفى بن خالد

 

شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم 
مـــصـــطــفـــى بن خالد

الانتقالي في ساحة العروض: 
من جلاء الأمس إلى ارتهان اليوم

مقال تحليلي في الديناميات السياسية والجيواستراتيجية للجنوب اليمني

مقدمة:

تُمثّل ساحة العروض في عدن إحدى أهم الفضاءات الرمزية في الوعي السياسي الجنوبي؛ فهي المكان الذي شهد الاحتفاء بجلاء المستعمر البريطاني عام 1967، حين نجحت الحركة الوطنية في إنتاج واحدة من أكثر التجارب التحررية نضجاً في المنطقة. 

غير أنّ المشهد المعاصر يعيد إنتاج هذه الرمزية في سياق مختلف كلياً، حيث بات الاحتفال بالجلاء محفوفاً بإشكاليات سياسية ترتبط بتنامي النفوذ الخارجي وتحوّلات الفاعلين المحليين، وفي مقدمتهم المجلس الانتقالي الجنوبي. 
ومن هنا تنشأ ضرورة قراءة هذه التطورات بمنهجية تفسيرية تجمع بين التحليل التاريخي، ورصد الفواعل الإقليمية، وتفكيك بنية القرار السياسي في اليمن الراهن.

أولاً: الجلاء كحدث مؤسِّس في بنية الوعي السياسي الجنوبي

مثّل جلاء 1967 نقطة تحول في تشكّل الوعي الوطني عبر لحظة تحررية استثنائية اعتمدت على التفاعل بين مكوّنات المجتمع كافة: 
الحركات العمالية، النخب الفكرية، الطلاب، والنساء اللواتي شاركن بشكل نوعي في العمل المقاوم. هذا التعدد الاجتماعي منح مشروع الاستقلال قوته وشرعيته؛ إذ تأسست دولة الجنوب آنذاك على مفهوم سيادة الإرادة الشعبية، ورفض أي شكل من أشكال الهيمنة الخارجية.

لقد تحوّل الجلاء إلى مرجعية معيارية تُقاس بها ممارسات الفاعلين السياسيين، بحيث يُنظر لأي انحراف عن مبادئ الاستقلال باعتباره خروجاً على (الميثاق الوطني غير المكتوب) الذي تشكّل عبر نضالات التحرير.

ثانياً: الانتقالي وتحولات الوظيفة السياسية

منذ ظهوره، قدّم المجلس الانتقالي نفسه بوصفه حاملاً لقضية الجنوب اليمني السياسية. 
غير أنّ التطورات الميدانية والاصطفافات المتغيرة أظهرت تحوّلاً في وظيفته من فاعل يسعى لتمثيل تطلعات الجنوبيين إلى أداة سياسية ضمن ترتيبات إقليمية ذات طبيعة استراتيجية.

ويبرز هذا التحول في ثلاثة مسارات أساسية:
 1- إعادة تشكيل البنية الأمنية والعسكرية خارج إطار الدولة اليمنية، ما يضعف منطق مؤسسية القرار.
 2- تغليب الولاءات الإقليمية على محددات المصلحة الوطنية، الأمر الذي يُقوِّض موقعه كفاعل مستقل.
 3- تكريس الانقسام السياسي والاجتماعي عبر إنتاج شبكات نفوذ موازية للسلطة الرسمية.

إن هذا التحول يعكس انتقالاً من تمثيل القضية إلى إدارة تموضعات سياسية، الأمر الذي يثير سؤالاً جوهرياً حول مدى استقلالية القرار داخل البنية التنظيمية للانتقالي.

ثالثاً: العامل الإقليمي… الجنوب كحقل استراتيجي مفتوح

لا يمكن فهم تحولات المشهد الجنوبي للبلاد دون إدراك البعد الجيوسياسي الذي تلعبه الإمارات ودول أخرى في سياق إدارة التنافس على الممرات المائية والموانئ الاستراتيجية الممتدة من عدن إلى سقطرى وباب المندب. 
فهذه الجغرافيا ليست مجرد مجال سيادي، بل عنصرٌ مركزي في صراع النفوذ على البحر الأحمر وخطوط التجارة الدولية.

يتجسد الدور الإقليمي عبر:
 • إنشاء شبكات قوة محلية تتجاوز مؤسسات الدولة.
 • إعادة هندسة التوازنات الداخلية بما يضمن نفوذاً مستداماً.
 • الاستثمار في البنى اللوجستية والموانئ ضمن سياقات اقتصادية وأمنية بعيدة المدى.

ومن هذا المنظور، يصبح الجنوب ساحة تنافس جيوسياسي تتقاطع فيها مصالح الإمارات والسعودية والفاعلين الدوليين، بينما يتراجع فيها صوت الفاعل الوطني المستقل.

رابعاً: تآكل القرار الوطني وضعف البُنى المؤسساتية

تكشف الأزمة اليمنية عن مشهد مأزوم تتآكل فيه السلطة الشرعية وتتعدد فيه مراكز القوة. 
فمجلس القيادة الرئاسي، والأحزاب التقليدية، والإدارات المحلية، جميعها مرتهنة وتبدو عاجزة عن إنتاج قرار وطني موحد. 
هذا الفراغ يعزّز قدرة القوى الإقليمية على توجيه مسار الأحداث.

ويظهر ذلك في:
 • فقدان احتكار الدولة لاستخدام القوة.
 • تعدد الموارد والولاءات لدى الوحدات العسكرية والأمنية.
 • غياب رؤية وطنية جامعة تحكم أداء الفاعلين المحليين.

إن هذا التفكك البنيوي يجعل من اليمن حالة نموذجية لما يسمى في الأدبيات السياسية بـ “الدولة الخاضعة لتأثير الفواعل الخارجية”، حيث تصبح خيارات الداخل مجرد انعكاس لمعادلات الخارج.

خامساً: الجلاء بوصفه منهجاً لاستعادة السيادة

يتجاوز فهم الجلاء كذكرى حدود الاحتفال الرمزي، إذ يمكن توظيفه كمنهج لتقييم فعالية الفاعلين ومدى قربهم أو ابتعادهم عن مشروع السيادة الوطنية. فالاستقلال الحقيقي لا يُقاس فقط بغياب المستعمر التقليدي، بل بمدى قدرة الفاعلين المحليين على حماية القرار الوطني من الارتهان.

ويكشف تحليل اللحظة الراهنة أن جنوب الوطن يقف أمام معادلة دقيقة:
إما استعادة روح الجلاء بوصفها مشروعاً وطنياً للتحرر والسيادة، وإما الاستمرار في الارتهان للفاعلين الإقليميين، وهو مسار لا يمكن أن ينتج إلا مزيداً من التفكك على المدى البعيد.

خاتمة: الجنوب بين إرث الجلاء واستحقاقات الواقع

لا تمثل ساحة العروض اليوم مجرد فضاء للاحتفال، بل فضاءً للقراءة النقدية لما آلت إليه السياسية لمن يدعي تمثيل الجنوب. 
ومن خلال مقارنة مشهد الجلاء بمشهد اليوم، يتضح أن من يدعي تمثيل الجنوب يعيش عدم اتساق تاريخي بين ذاكرة التحرر وممارسات بعض الفاعلين.

إن استعادة الاستقلال كمنهج، لا كمناسبة، تتطلب:
 • إعادة بناء القرار الوطني اليمني على أسس سيادية مستقلة.
 • إعادة تعريف دور الفاعلين المحليين ضمن مشروع وطني لا ضمن هندسات إقليمية.
 • إعادة صياغة العلاقة بين الجغرافيا ومصادر القوة بحيث تصبح اليمن فاعلاً لا ساحة.

وفي هذا السياق، تغدو مفارقة العنوان — من جلاء الأمس إلى ارتهان اليوم — ليست حكماً قيمياً، بل نتيجة تحليلية لمشهد تفرض تعقيداته إعادة قراءة موقع الجنوب ضمن معادلة السيادة اليمنية
 والجيواستراتيجية الإقليمية.

آخر الأخبار