بحث

اليمن بين تبادل الأدوار الإقليمي وارتهان الداخل: قراءة استراتيجية في مشهدٍ يزداد تعقيداً

مصطفى بن خالد

 

شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم 
مـــصـــطــفـــى بن خالد

اليمن بين تبادل الأدوار الإقليمي وارتهان الداخل: 
قراءة استراتيجية في مشهدٍ يزداد تعقيداً

تعيش اليمن منذ أكثر من عقد حالةً مركّبة من الصراع، تتداخل فيها الحسابات الداخلية بالمصالح الإقليمية والدولية، في واحدة من أكثر الأزمات العربية تعقيداً وتشابكاً. 
ورغم أن المشهد اليمني يُظهر ظاهرياً تعدد الفاعلين، إلا أنّ حقيقة الصراع تكشف عن مستويين رئيسيين: فاعلون خارجيون يمسكون بخيوط النفوذ، وفاعلون محليون تماهوا — طوعاً أو اضطراراً — مع شبكة المصالح تلك.

أولاً: تبادل الأدوار السعودي ـ الإماراتي… توازن نفوذ أم تقاسم ساحات؟

لم يعد خافياً على المراقبين أن الرياض وأبوظبي تديران الملف اليمني وفق ما يشبه “المعادلة التكميلية”، حيث تتقاسم الدولتان الأدوار والمناطق بما يخدم مقاربتين أمنيتين وسياسيتين مختلفتين، لكنهما في المحصلة تؤديان إلى النتيجة نفسها: 
تكريس واقع متشظٍّ يحول دون قيام دولة مستقرة ذات سيادة كاملة.

1. السعودية: مقاربة الأمن الحدودي ومنع الانفلات الإقليمي

تنظر المملكة العربية السعودية إلى اليمن من زاوية أمنية بحتة؛ إذ أن أي اهتزاز في الداخل اليمني يُقابَل بارتدادات مباشرة على أمن حدودها الجنوبية. لذلك تبنّت الرياض سياسة “إدارة الأزمة لا حلّها”، بحيث تحافظ على توازن يحول دون انهيار كامل، لكنه لا يسمح بقيام سلطة مركزية قوية قد لا تتوافق مستقبلاً مع مصالحها الاستراتيجية.

2. الإمارات: مقاربة النفوذ البحري والسيطرة الاستراتيجية

تتبنى الإمارات سياسة أكثر تقدماً في الجنوب والسواحل والموانئ، ويأتي ذلك ضمن رؤيتها لمنظومة نفوذ تجاري — عسكري ممتدّ على البحر الأحمر وباب المندب. 
ومن هنا جاء دعمها للقوى المحلية المتحالفة معها، وترسيخ وجود عسكري في نقاط حسّاسة تعطيها ثقلاً إقليمياً لا يُستهان به.

3. أين يلتقي الدوران؟

رغم اختلاف المقاربتين، إلا أنّ كلا البلدين نجحا في تحويل اليمن — عملياً — إلى ساحة نفوذ مزدوج، تتحكم فيه المصالح الاستراتيجية أكثر من اعتبارات دعم الدولة اليمنية. 

وقد أصبح هذا “التكامل الضمني” واقعاً يُترجم على الأرض في تركيبة القوى وتوزيع السلطات.

ثانياً: اليمنيون… بين الارتهان الخارجي وبيع القرار الوطني

وليس من العدل أو الدقة أن نلقي باللوم على الإقليم وحده؛ إذ أن جزءاً من مأساة اليمن يتمثل في تواطؤ قوى محلية وضعت مصالحها فوق الوطن، وارتضت أن تتحول إلى أدوات ضمن صراع المصالح.

1. الاعتمادات… العملة الأخطر في الحرب

لعبت “الاعتمادات” والدعم المالي الخارجي دوراً مدمّراً في تشكيل النخب اليمنية الجديدة. 
فقد أصبحت بعض القوى السياسية والعسكرية مرتبطة مالياً بالكامل بدول خارجية، ما جعل قرارها السياسي رهينة لمصدر التمويل، لا لمصلحة الشعب.

2. شرعية متنازع عليها ونفوذ متشظٍ

تحولت الشرعيات — الدستورية، والحزبية، والعسكرية — إلى شرعيات “مؤقتة ومأجورة” في بعض الأحيان، تُبنى وتنهار وفق ما تمليه المصالح الإقليمية. 
وبدلاً من أن تفرض الدولة حضورها، أصبحت الأطراف المتنازعة هي من تستدعي الخارج؛ كلٌّ منهما يريد أن يُسقط خصومه عبر أدوات غير وطنية.

3. غياب الرؤية الوطنية الجامعة

ما زال اليمن يفتقر إلى نخبة سياسية تمتلك رؤية وطنية غير مرتهنة، قادرة على إعادة بناء الدولة على أسس جديدة. 
وقد أدى هذا الفراغ إلى فتح الباب واسعاً أمام التأثير الخارجي، الذي وجد بيئة خصبة للتغلغل وتوسيع النفوذ.

ثالثاً: نحو مقاربة للحل… هل من نافذة يمكن النفاذ منها؟

رغم قتامة المشهد، إلا أن مسارات الخروج من الأزمة ليست مستحيلة، لكنها تتطلب إعادة تعريف جوهر الصراع. الحل يبدأ من ثلاث نقاط مركزية:

1. استعادة القرار الوطني من الارتهان

لا يمكن لأي عملية سلام أن تنجح ما لم تتم إعادة بناء نخبة سياسية جديدة، مستقلة مالياً، غير مرهونة، تحمل رؤية وطنية ولا تنتظر التعليمات من الخارج.

2. وضع حدّ للتقاطعات الإقليمية على الساحة اليمنية

لن يتحقق الاستقرار ما لم يتم الاتفاق — عبر مسار دبلوماسي دولي — على تحديد أدوار واضحة، تُخضع أي تدخل خارجي لإطار يضمن وحدة اليمن واستقلال قراره.

3. بناء عقد اجتماعي جديد يشمل الجميع

لا يمكن إقصاء أي مكوّن وادعاء صنع السلام. اليمن بلد متعدد، ولا تستقيم الدولة فيه إلا بصيغة تضمن شمولية حقيقية لا تُقصي أحداً ولا تمنح تفويضاً مطلقاً لأحد.

الخلاصة :

إن الأزمة اليمنية ليست مجرد حرب داخلية، ولا مجرد تنافس إقليمي، بل هي صراع مركّب بين إرادات الخارج وغياب الإرادة الوطنية الجامعة. 

وما لم تستعد اليمنيون زمام المبادرة، وتتكامل الضغوط الدولية والإقليمية نحو حل عادل وشامل، فسيظل اليمن في دائرة “اللااستقرار” التي أنهكته.

اليمن يستحق دولة… لا ساحات نفوذ.
ويستحق سلاماً… لا هدنة ممتدة.
ويستحق نخبة وطنية… لا وكلاء مصالح.

آخر الأخبار