شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
اليمن في قلب لعبة القوى:
تفكيك الديناميات السياسية والجيوستراتيجية لصراع تُحرّكه العواصم ويُديره الوكلاء
لم يعد المشهد اليمني قابلاً للقراءة عبر الأدوات التقليدية، ولا عبر عناوين “الأزمة الإنسانية” أو “الصراع الداخلي”.
الحقيقة الصريحة التي تهرب منها الأطراف هي أن اليمن تحوّل إلى ملف جيوسياسي مُدار بالكامل من الخارج، وأن اللاعبين المحليين انحدروا — بإرادتهم أو بعجزهم — من موقع “المقرر” إلى موقع “ الأداة ”.
في اليمن، لم تعد الحرب حرباً، ولا السلام سلاماً.
بل أصبحنا أمام هندسة نفوذ معقّدة تتداخل فيها مصالح السعودية والإمارات وإيران، تحت مظلة دولية مرتخية ومكاتب أممية تدير المشهد بأسلوب “الإدارة من بعيد” دون مسؤولية ولا فعالية.
أولاً: اليمن كمنطقة رمادية في الحسابات السعودية والإماراتية
بين الرياض وأبوظبي تحالف يُعلن وتنافس يُدار وتقاسم يُنفَّذ.
والنتيجة:
بلد يُعاد تشكيله جغرافياً وسياسياً دون موافقة شعبه.
السعودية: اليمن كـ “عمق أمني” لا دولة مستقلة
ترى الرياض أن استقرار اليمن خطر إذا أنتج سلطة وطنية حقيقية غير تابعة.
لذلك تسعى — بشكل مباشر وغير مباشر — إلى بقاء اليمن في حالة “سيطرة منخفضة التكاليف” لا حرب شاملة ولا دولة كاملة.
الحرب معقولة…
والسلام غير مرغوب…
والدولة المستقلة خط أحمر.
الإمارات: اليمن كـ “ممرّ بحري” لا وطن
تتعامل أبوظبي مع اليمن كجزء من مشروعها البحري الممتد من القرن الإفريقي إلى المتوسط.
لا جنوب بلا موانئ.
ولا موانئ بلا نفوذ عسكري.
ولا نفوذ بلا ميليشيات موالية تضمن إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية بما يخدم استراتيجية “ الممرات ”.
النتيجة:
بلد بلا سيادة… وسلطات بلا شرعية… وشعب بلا صوت
وهذا أخطر من الحرب نفسها.
ثانياً: القوى اليمنية… تواطؤ داخلي صنع الأزمة قبل أن يصنعها الخارج
الخارج تدخّل… نعم.
لكن الداخل فتح الأبواب وسلّم المفاتيح.
رواتب، مخصصات، اعتمادات، ولاءات، ومشاريع صغيرة… بثمن الوطن الكبير
تحوّلت الاعتمادات المالية إلى “لعبة شراء وطن”.
القوى اليمنية أصبحت تعيش على التمويل الخارجي، وتدور في فلك الممول.
أصبح القرار السياسي سلعة، والتمثيل الوطني تجارة، والولاء لمن يدفع لا لمن ينتمي.
النخب اليمنية… بين خيانة الوعي وخيانة المسؤولية
أسوأ ما فعله الداخل أنه تخلّى عن معنى الدولة.
فصار السياسي يفاوض على الكرسي لا على الوطن،
والقيادي يبحث عن منصب لا عن مستقبل،
والأحزاب تحوّلت إلى “أجنحة” مدفوعة الأجر.
هذه ليست أزمة تدخّل دول؛ هذه أزمة انهيار الإرادة الوطنية.
ثالثاً: الأمم المتحدة… إدارة الأزمة بدل حلّها
المبعوث الأممي ليس سوى “مدير مشروع” لا “ صانع سلام ”.
الملف الأممي يتعامل مع اليمن كأزمة إنسانية أكثر منه قضية سياسية.
مكاتب الأمم المتحدة تمارس الإقصاء بالنعومة الدبلوماسية
يتم استبعاد مكونات كاملة — دينية، اجتماعية، مناطقية — من الحوار، تحت ذريعة “ الترتيبات التقنية ”.
وما يُسمّى بـ “العملية الشاملة” ليس إلا شمولية انتقائية.
إقصاء مكوّن واحد يعني صناعة حرب مؤجلة.
ونحن مثال واضح على تهميش متعمّد لا يخدم السلام ولا العدالة.
رابعاً: اليمن في الحسابات الجيوستراتيجية الدولية
اليمن ليس هامشياً في الخرائط الدولية.
بل هو:
• نقطة ارتكاز لأمن البحر الأحمر والمحيط الهندي
• ممرّ عالمي لتجارة تُقدّر بثلاثة تريليونات دولار سنوياً
• حافة ناعمة يمكن بها موازنة النفوذ الإيراني
• مسرح ضغط لتحريك التوازنات الأمريكية ـ السعودية ـ الإماراتية
• بوابة جيوسياسية لإعادة تشكيل القرن الإفريقي واليمن معاً
٠ خزان ثقافي وحضاري هائل للمنطقة بأسرها
بمعنى آخر:
اليمن ليس مهمّاً لأنه بلد فقير، بل لأنه بلد حساس.
ولهذا يُترك معلقاً:
لا يُسمح له بالانهيار الكامل…
ولا يُسمح له بالقيام الكامل.
خامساً: ماذا يعني كل ذلك للمستقبل؟
خريطة اليمن القادمة — إذا بقيت الديناميات كما هي — ستكون خليطاً من:
• سلطات محلية متنافسة
• مناطق نفوذ إقليمية
• اقتصاد مفكك
• ولاءات مفصّلة على مقاس الممول
٠ سرقةٌ للأثر، ومحوٌ للهوية، وتزويرٌ فاضح لتاريخ اليعاربة وذاكرتهم الجمعية
في هذا المشهد، لن تُبنى دولة يمنية موحدة،
إلا إذا حدث تحوّل جذري في ثلاثة مسارات:
1. تحرير القرار الوطني من الارتهان المالي والسياسي
2. تحجيم نفوذ اللاعبين الإقليميين عبر إطار دولي صارم
3. عملية سلام شاملة لا تستثني أحداً ولا تصنع يمنياً درجة أولى وآخر درجة ثانية
الخلاصة الصادمة… لكنها الحقيقة
اليمن اليوم ليس ساحة حرب…
بل ساحة إعادة كتابة الجغرافيا السياسية للمنطقة.
وليس صراعاً داخلياً…
بل صراع نفوذ تُحرّكه العواصم وتُنفّذه الأذرع المحلية.
والخطر الأكبر ليس ما يفعله الخارج…
بل ما يقبل به الداخل.
اليمن لن ينهض حتى يقول كلمته الحرة:
لا وكلاء… لا اعتمادات… لا إملاءات.
دولة واحدة… قرار واحد… سيادة واحدة.
وهذا هو جوهر المعركة الحقيقية.