بحث

الجلاد يطلب اللجوء من ضحاياه: لحظة سقوط الهوية في هجليج

عبد العزيز ابوعاقلة

 

الجلاد يطلب اللجوء من ضحاياه: لحظة سقوط الهوية في هجليج                                                                               عبدالعزيز ابوعاقلة                                                                       & لم يكن الخبر مجرد حركة عسكرية عابرة، بل لحظة انكشاف كاملة لحقيقة ظلت مستترة عقودًا: الجيش السوداني، الذي طالما قدّم نفسه حارس الهوية العربية والإسلامية في وجه “الآخر الأفريقي”الجنوبي تحديدا ، وجد نفسه في النهاية لاجئًا إلى أحضان ذلك “الآخر” نفسه. المشهد ليس هروبًا فحسب، بل سقوطًا غرائزيًا في حضن من طُعِنَ به لسنين طويلة باسم الجهاد وباسم الهوية المتعالية التي صنعت الكراهية وشرعنت الحرب.

حين تستقبل روينق في دولة جنوب السودان ضباطًا وجنودًا من الجيش السودانية المنهار أمام تمدد قوات الدعم السريع، فهي لا تستقبل مجرد جنود منهزمين، بل تستقبل تاريخًا كاملًا من التكبر والاستعلاء عليهم. تستقبل مؤسسة كانت تنظر إلى الجنوب نظرة دونية، وتتعامل معه كفضاء ناقص، وشعب من الدرجة الثانية، وهوية سايبة تحتاج إلى “تقويم” عبر السيف والفتوى. واليوم يدخل هؤلاء ذاتهم محمولين بالأسلحة والعتاد والارتباك، ويجدون الأمن والخبز والمأوى عند من كانت أبواق الخرطوم الرسمية تصفهم يومًا بأنهم “كفار” و”تمرد” و”أعداء العقيدة” والوطن الواحد حينها .

إن المفارقة هنا ليست سياسية فقط، بل أخلاقية وهووية. الجنوب الذي قُصِفَت قراه وسُبي شبابه وأُحرقت بلداته، واغتصبت بناته الجنوب الذي سُمّي “عبئًا” على الهوية العربية، هو نفسه الذي يفتح ذراعيه دون حقد، وكأن التاريخ يريد أن يسخر من كل الذين تربّوا على أوهام الاستعلاء. الجنوبي الذي كان يُعامل في الخرطوم كغريب، كدون، كمن لا يمتلك “هوية محترمة”، هو من يقف اليوم ليوفّر الحماية لمن جرّب خنقه وإذلاله لعقود. الجنوبي الذي حارب ليكون إنسانًا في وطنه، هو اليوم من يمنح حق الحياة لجنود دولة كانت تستهزئ بدمه ولونه ولغته ووجوده ذاته.

لا يحتاج الجنوب إلى الثأر، لأن من يملك الأخلاق لا يحتاج إثباتها بالدم. لكن السودان الشمالي الرسمي — لا شعبه — يجد نفسه الآن عاريًا أمام العالم: هو الذي بنى الدولة الحديثة على أساس مركز متعالٍ يستمد هويته من احتقار الهامش، يجد نفسه يبحث عن أمانه في الهامش نفسه. إنه سقوط هرم الهوية السودانوية العربية–الإسلامية المتوهمة التي صُنعت في الخرطوم لتبرير الحروب والاستعباد والقهر. ما عاد بالإمكان القول “نحن الأعلون” عندما تكون النجاة مرهونة بصحن طعام قدّمه لك مَن زعمت يوماً أنه بلا حضارة.

الهروب إلى الجنوب ليس هروبًا من معركة فقط، بل هروب من تاريخ كامل: تاريخ تكفير الجنوب، تاريخ شرعنة قتاله باسم الجهاد، تاريخ شعارات “الدفاع عن العقيدة” التي كانت تُطلق بينما تُحرق قرى أهل الجنوب بالنار والدم. واليوم، من كانوا يُسمّون بالكفار هم من يحمون جيشًا رفع السلاح عليهم تحت تلك الراية.

في هذه اللحظة، السودان لا يهرب من الدعم السريع فقط، بل يهرب من خطابه القديم، من عنف هويته، من الغرور الذي تربّى عليه، من الدولة التي ظلت تؤمن أن الجنوب يعيش في ظلّها… بينما الحقيقة كانت طوال الوقت أن الجنوب أكبر أخلاقًا من كل ما قيل عنه.

التاريخ يكتب مشاهد مثل هذه مرة كل قرن: جلاد يلوذ بضحاياه، دولة مستقلة حديثًا تتصرّف بكرامة أكثر ممن استعمرها واستعلى عليها، وشعب حمل من الألم ما يكفي ليقتل… لكنه اختار أن يحمي. إن جيش البرهان المتعالي  لا يجد ملاذًا في الجنوب لأنه قريب فحسب، بل لأنه المكان الوحيد الذي لم يعد يحمل الكراهية الحرة التي ظلّت الخرطوم تزرعها لعقود.

وهكذا يتحول الجنوب إلى مرآة يرى فيها السودان صورته الحقيقية: بلا رتوش الهوية المتعالية، بلا أقنعة العروبة السياسية، بلا خطاب الجهاد. مجرد إنسان مذعور يبحث عن أخيه الذي كان يعتبره أقل منه… ليحميه.             

 لن ينسى التاريخ هذا المشهد:

جيشٌ كان يرفع راية الجهاد فوق جثث أهل الجنوب…
يستظل اليوم بظل نفس الشعب الذي لم ينتقم ولم يشمت.

الجنوب لم ينتصر عسكريًا فقط.
لقد انتصر أخلاقيًا، سياسيًا، ورمزيًا.

أما السودان — المنهك، الممزق، المحكوم بالحديد والنار لعقود — فقد وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه:
آخر ملاذ لجيشه صار أرض من قاتلها باسم الدين.

هذه ليست مفارقة…
إنها خلاصــة تاريخ كامل من الكذب السياسي، والتعبئة الدينية، والحروب العبثية هذا ليس خبرًا؛ هذا حكم تاريخ.                                                     عبدالعزيز ابوعاقلة                                                            azizabuaglah@gmail.com

آخر الأخبار